رجب أبو سرية - النجاح الإخباري - ها قد مرّ أكثر من شهر على دخول الرئيس الأميركي السادس والأربعين للبيت الأبيض، ولم يحدث شيء ملموس فيما يخص سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وحتى تأخر مهاتفة الرئيس الجديد لرئيس الحكومة الإسرائيلية الذي لفت انتباه الكثير من المراقبين، يدل على أن إدارة بايدن مختلفة تماماً عن سابقتها، فهي لا تستعجل الأمور، كما أنها وإن كانت تتبع نهجاً سياسياً مختلفاً، بل وحتى متناقضاً مع النهج الذي سارت عليه إدارة ترامب، إلا أنها لا تفعل كما فعل، أي تسير وفق نهج الانتقام أو القيام بالعمل المعاكس بشكل تلقائي.
جو بادين بشكل شخصي مختلف تماماً عن ترامب، وهو ابن مخضرم لمؤسسة الحكم، ولمجلس الشيوخ، وقضى من قبل ثمانية أعوام في البيت الأبيض كنائب للرئيس باراك أوباما، لذا فموقفه تجاه نتنياهو لا يمكن أن يعد موقفاً شخصياً، كما ذهب بعض المحللين، بأنه يعود للعلاقة الشخصية التي جمعت نتنياهو بترامب، وبايدن ليس بطيئاً كما وصفه من قبل خصمُه المهزوم في الانتخابات، لكنه ليس على عجلة من أمره، وهو سارع على الفور باتخاذ قرارات تنفيذية داخلية وخاصة باتفاقية المناخ، لأنه منح أولوية في السياسة الخارجية للتقارب مع الحلفاء التقليدين الأوروبيين، لكنه فيما يخص الشرق الأوسط بملفَيه الرئيسيَّين، الملف الإيراني أولاً، والملف الفلسطيني ثانياً، يتأنى، وهو يفضل الدخول لهما بتوافق مع الأوروبيين.
كذلك، بتقديرنا، يأخذ بعين الاعتبار أن هناك انتخابات إسرائيلية متأرجحة، قد تفضي إلى شلل داخلي كما حدث طوال عامي 2019، 2020، لذا فهو ليس متأكداً من أن نتنياهو بالتحديد هو الذي سيكون شريكاً في معالجة الملف الفلسطيني/الإسرائيلي، ومن الحكمة السياسية أن يراقب ما ستفضي إليه الانتخابات الإسرائيلية أولاً، ومن ثم الانتخابات الفلسطينية ثانياً، فيما سيكون الوقت مناسباً لدراسة الخيارات وتهيئة الأجواء مع كل العناصر المؤثرة في ذلك الملف.
وبالنظر إلى الانتخابات الإسرائيلية التي ستجري بعد أقل من شهر من الآن، فإنه يمكن القول: إن نتنياهو الذي ذهب للانتخابات المبكرة بمحض إرادته، بعد فضّه الشراكة مع «كاحول لافان»، لرفضه إقرار الميزانية، قد فوجئ بانشقاق جدعون ساعر، الذي أخذ معه ثلث قوة الليكود، التي كانت كافية مع الحريديم لتشكيل حكومة برئاسته، لكنه بالمقابل أبقى على حياته السياسية بفضل عاملَين استندا لما أحدثه من إنجاز باختراق ملف التطبيع مع أربع دول عربية، ونقصد بالعاملَين: ملف القضاء حيث هو متهم بالفساد، وتناحر الخصوم، حيث إنه يواجه هذه المرة خصوماً غير متحدين، أو على الأقل غير متفقين على بديل له، كما كان الحال في الجولات الانتخابية الثلاث التي جرت خلال عامي 2019، 2020.
في تلك الجولات كان الخصوم متباعدين سياسياً، يجمعون كل ألوان الطيف السياسي، من اليمين إلى اليسار والوسط والجنرالات وكذلك العرب، لكنهم كانوا جميعاً، مصطفين وراء بيني غانتس، الذي بقي بحزبه «كاحول لافان» نداً لليكود، أما هذه المرة، فإن خصوم نتنياهو متناحرون، ولا يجمعون على رئيس حكومة بديل، من بين ثلاثة على الأقل هم: جدعون ساعر، نفتالي بينيت ويائير لابيد.
بل إن التراشق بين كل من ساعر وبينيت يبدو أشد وطأة، وكلا الرجلين كما هو معروف يقف على يمين نتنياهو، لذا فإنه رغم وجود احتمال يتمثل بعدم قدرة نتنياهو على تشكيل حكومة أغلبية بسيطة مكونة من معسكره المتماسك والمصطف وراءه، المكون من الليكود والحريديم والصهيونية الدينية، فإن فشل الخصوم في تشكيل حكومة حتى لو حققوا الأغلبية، يبدو أمراً مرجحاً، لأنهم أولاً بحاجة للاتفاق فيما بينهم، أي كل من ساعر وبينيت ولبيد ومعهم ليبرمان، وهؤلاء يشكلون تقريباً قوة موازية لقوة الليكود - الحريديم، فيما يبقون بحاجة إلى العرب واليسار.
إسرائيل إذاً أمام معادلة صعبة، فإما نتنياهو مجدداً رئيساً للحكومة، وإما الشلل السياسي، وحتى ربما الذهاب إلى انتخابات أخرى غير حاسمة، وهنا قد يكون الشلل الداخلي وصفة مناسبة لمواجهة البيت الأبيض بساكنه الجديد، لفرض بقاء واقع الحال في الملف الفلسطيني/الإسرائيلي على حاله، لكنه في حقيقة الأمر فرصة من جهة أخرى لأن تتدخل الولايات المتحدة أكثر في الملف، من خلال التباحث مع أكثر من فريق إسرائيلي، خاصة لو تم تشكل حكومة ائتلافية من الليكود وبعض خصومه، من غير مَن هم على يمينه، أي ساعر وبينيت.
كل السيناريوهات ممكنة في إسرائيل، ومستحيلة بنفس الوقت، ولعل أفضلها لنتنياهو هو أن يتجاوز «كاحول لافان» نسبة الحسم، ويحصل على أربعة أو خمسة مقاعد، تقترب من عشرة مع مقاعد حزب العمل، أي شريكَيه في الحكومة الحالية، مع معسكره الحالي، لكن في حال لم يتحقق هذا، فإنه ليس أمامه إلا أن يتفق مع أحد خصمَيه اليمنيَّين اللذين يواجههما في هذه الانتخابات لأول مرة، أي بينت أو ساعر، وهذا ممكن، وفق صيغة مشابهة لما حدث مع بيني غانتس في المرة السابقة.
أما لبيد وليبرمان، والعرب بالطبع، فمن المستحيل أن يقتربوا من ليكود/نتنياهو، وهكذا فإن انغلاق الأفق أمام خصوم نتنياهو في القدرة على تشكيل حكومة دونه، يجعله أقل قلقاً هذه المرة مما كان عليه الحال فيما سبق من جولات انتخابية، لكن الصورة بمجملها تلقي بظلال على إسرائيل نفسها، وتثير التساؤل إن كانت دولة قادرة على اتخاذ القرار التاريخي، وجوهره صنع السلام مع الجانب الفلسطيني، وهذا هو بتقديرنا مدخل للتحرك السياسي الفلسطيني، فإسرائيل قد تكون قادرة على إنجاز صفقات سياسية مع أنظمة عربية مستبدة، لكنها غير قادرة على صنع السلام التاريخي، الذي تقبله شعوب المنطقة، وهي بذلك تدير ملفات السياسة الإقليمية وفق حسابات عابرة وحتى انتخابية، ليس فيها أي بعد إستراتيجي، يحقق مستقبلاً أفضل لشعوب المنطقة، لذا فلا بد من تدخل خارجي، يفرض العقل والتعقل، على جملة من القادة المتناحرين سياسياً، والذين لا يفكرون سوى بصناديق الاقتراع، والمقاعد الوزارية، فيما مستقبل المنطقة كلها على كفّ عفريت، بل ربما أكثر من عفريت متطرف هنا وهناك.
عن جريدة الأيام