النجاح الإخباري - هربت عائلة ريحان من ويلات الحرب في سوريا لتستقر في مخيم برج البراجنة. الأب والأم وثلاث بنات والطفل عثمان. لم يجدوا صعوبة في الاندماج في المجتمع الجديد. تعرّف عثمان على أقران له. يمضى معهم معظم الأوقات، يلعبون في أزقة المخيم الضيقة. وقبل أسابيع، كان الوقت عصراً، عندما مسك الطفل ذو الثانية عشرة من عمره قسطل مياه، ثم وقع على الأرض.
ظن الأطفال أنه يمازحهم. لكن طال نومه. اقتربوا من جسده الممدد. لم يتحرّك. كانت صعقة كهربائية قد أوقفت التنفس والدورة الدموية تماماً. وأحدثت حروقاً في جسمه الصغير. راح الأطفال يصرخون. حمله شبان إلى مستشفى حيفا الملاصق لموقع الحادثة، لكن الكهرباء التي وصلت إلى جسد عثمان أسكتت كهرباء قلبه. كانت صدمة العائلة كبيرة، ولم تصح بعد منها. انضم عثمان إلى لائحة طويلة ساقتهم صعقات كهربائية إلى مقبرة المخيم.
تعود الذاكرة بسلطان العينين إلى العام 1981. يومها، كان طفلاً في صفه الأول. ناداه الأستاذ فجأة، وأخرجه من الصف. كان قريب ينتظره. قال له: "إننا سنذهب إلى البيت". استغرب الطفل، إذ كانت أمه هي من تأتي لتصطحبه إلى المنزل. أخبره في الطريق أن أمه فارقت الحياة بصعقة كهربائية. كانت فاطمة الدبدوب أول من دُفن في مقبرة المخيم. 48 متوفى بصعقات كهربائية خلال أقل من عقدين، وهم نحو تسعة أضعاف عدد من قُتل نتيجة حوادث أمنية.
يتفق ناشطون حول عدد من الأسباب. فيقول الناشط حسن الخطيب إن "التمديدات الكهربائية العشوائية تعود إلى غياب هيئة متخصصة تقوم بتوزيع الكهرباء بطريقة سليمة، بحيث لا تسبب أذى لسكان المخيم". يضيف أن اللجان الشعبية القائمة لا تحوي متخصصين يستطيعون متابعة الأعمال اليومية بحرفية، تسهم في تجنب الأخطار الناتجة عن الكهرباء. ولا ينفي الخطيب المسؤولية المجتمعية في ذلك، فالتعديات على الشبكة العامة، هي عادة تعديات من الأهالي "لكن أي سلطة قائمة لها دور كبير، وبصمة واضحة، في أخلاقيات المجتمع".
ويشير الخطيب إلى التزايد السكاني في مخيم برج البراجنة، أولاً نتيجة النمو الطبيعي، وثانياً نتيجة النزوح والهجرات المتتالية إليه. بدءاً من نزوح أهالي مخيم تل الزعتر (1976)، ثم مخيمات الجنوب (1978). وبعد ذلك لجوء الفلسطينيين من سوريا والسوريين أثناء الأزمة السورية. "وكل ذلك أضاف ضغطاً متزايداً على البنى التحتية في المخيم، ومنها الكهرباء". ويدعو الخطيب إلى ضرورة تشكيل إدارة موحدة للمخيم، بمعزل عن الانتماء الفصائلي، بل يجب أن تضم هذه الإدارة الكفاءات المطلوبة فحسب، وليس تشكيلها على أساس المحاصصة الفصائلية.
في العام 1954، دخلت الكهرباء للمرة الأولى خيام اللاجئين الفلسطينيين في مخيم برج البراجنة. وفي بداية الستينيات كان سكان المخيم يستهلكون نحو 250 أمبيراً فقط. حينها، لم يتجاوز عددهم الأربعة آلاف نسمة. أما اليوم فيبلغ عددهم نحو 50 ألفاً، نحو نصفهم من اللاجئين السوريين. وهناك خمس محطات للتغذية بالكهرباء، كل واحدة منها تنتج نحو 4500 أمبير. وثلاث محطات يتشارك فيها أهالي المخيم مع الجوار.
المتخصص في الكهرباء محمد رضوان، وهو عضو في لجنة الصيانة التي تقوم بمحاولات ترتيب الكهرباء في منطقة جورة التراشحة، التي تشكل نحو ربع مساحة المخيم، يرجع بعض حالات الوفاة إلى غياب الوعي في التعامل مع قضايا الكهرباء. ويضرب مثلاً أن أكثر الناس لا يعرفون الخطر الذي يمكن أن يشكله خط الستلايت في حالات معينة.
ويشير رضوان إلى غياب المؤهلين والمشرفين والمختصين في إدارة المخيم. ويلاحظ أن "ليس هناك رؤية واضحة للتقليل من الإسراف في الكهرباء، وتحمّل المسؤولية المشتركة بين الإدارة والأهالي والمجتمع المحلي. وقبل ذلك، يجب الابتعاد عن المحسوبيات في التوظيف وتلزيم المشاريع".
أمين سر اللجنة الشعبية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية حسني أبو طاقة، يعترف بالمشاكل القائمة وجديّتها، لكنه ينفي غياب الرؤية، أو الحلول. ويقول "إننا رفعنا الصوت مراراً لتصحيح الوضع القائم. ولمّا دُعينا كلجان شعبية في المخيم إلى السراي، كانت مشاريعنا كلها جاهزة. وعرضناها بحضور الوزير السابق حسن منيمنة، رئيس لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، وكذلك بحضور ممثلين عن شركة كهرباء لبنان. وقد تفاجأ الحضور بشرح الأستاذ عادل سمارة التفصيلي لرؤيتنا للحل. وفي ضوء ذلك تعهد الصليب الأحمر الدولي بالتبرع ببعض المحوّلات لتغذية الكهرباء في المخيم".
يضيف أبو طاقة أنه "بعدما اتفقنا مع شركة كهرباء لبنان على كيفية إدارة الاشتراكات في المخيم، ودفعها إلى الشركة، وأوفى الصليب الأحمر بوعده، وأحضر المحوّل، عادت شركة كهرباء لبنان ورفضت زيادة التغذية بذرائع شتى. فشعرنا أن هناك قراراً سياسياً بمنع تنفيذ هذا الأمر، من دون أن نعلم خلفيات هذا القرار ودوافعه".
ويشير إلى أنه رغم الخلاف السياسي إلاّ أن اللجنتين الشعبيتين نفذتا كثيراً من المشاريع المشتركة، وحسّنتا بعض الخدمات "لكن ذلك غير كافٍ. والمطلوب تشكيل لجنة مشتركة مختصة تمثّل اللجان الشعبية والمجتمع المحلي، وهي متخصصة في موضوع الكهرباء والجباية". ويعترف أبو طاقة أن هناك عدم ثقة بين الناس والمرجعيات القائمة "وهو دافع أساسي للإسراع بتشكيل إدارة مختصة بالعمل والإشراف والجباية، وهذا هو الحل الأنسب اليوم من أجل إدارة تسهم في رفع المعاناة عن شعبنا".
عقب أي حالة وفاة بسبب الكهرباء في مخيم برج البراجنة، يثور السكان من أجل إعادة تشكيل إدارة المخيم، وتوحيد لجنتيه الشعبيتين، على أسس علمية ومهنية بعيداً من المحسوبية والفساد. وهذه المطالب الدائمة تشير إلى وعي جمعي بأن السبب الرئيسي لحالات الوفاة بالكهرباء هو تشرذم الإدارة، وما يصاحب ذلك من فوضى في التنظيم وتغييب الرقابة، على ما يقول سكان المخيم. (المدن)