النجاح الإخباري - غريب أمر السياسة الفلسطينية، والسياسيين، يشتد خلافهم مع بعضهم حين يشتد الخطر عليهم، حاضرا ومستقبلا. وحين يستفحل الخلاف وتجود القرائح بكل أنواع الاتهامات والتهديدات والشتائم، ترتفع نبرتهم في الحديث عن المصالحة والالتزام لما تم الاتفاق عليه، وبأن الوحدة الوطنية أولوية الأولويات.
كلهم يغردون نشيد الوحدة، وكلهم يحذرون من مخاطر الانقسام، وكلهم يرددون أن لا دولة في غزة ولا دولة بدون غزة وبدون القدس عاصمة لها، لكن الأفعال تذهب بالاتجاه الآخر. بينما يشتد الخطب، ويدخل ملف غزة من الباب الإنساني إلى حيز التنفيذ، تزداد العقبات ويضيق الوقت أمام إمكانية تجاوز الحسابات الفئوية الخاصة، لصالح الحسابات الوطنية، وكأن المخطط الإسرائيلي الأمريكي سيبقي لأحد ما يفتخر به. الوطنية الفلسطينية في هذه المرحلة أمام اختبار عسير، تضربها السهام من كل طرف، تستصرخ ضمائر أولي الأمر والمعنيين قبل وأكثر من غيرهم. لقد قررت الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، أن تدخل ميدان العمل في غزة تحت العنوان الذي صاغه بنيامين نتنياهو وهو " تأهيل قطاع غزة".
الذرائع متوفرة فهم يسعون لإنقاذ اثنين مليون فلسطيني من الأزمات المتلاحقة والمتعمقة، التي أطاحت بأبسط متطلبات العيش، ويحاولون تنفيس الخزان المضغوط حتى لا ينفجر في وجوههم. لو أن احتمالات انفجار الخزان كانت ستكون بعيدة عن إسرائيل لاختلف الأمر، وربما اشتغلت السياسة الأمريكية الإسرائيلية على زيادة الضغط لتقريب الانفجار. لا علاقة للسياسة الأمريكية الإسرائيلية بالإنسان وحقوقه، ولا تدخل هذه المفردات خطابهم السياسي، إلا لتكون ذريعة لمزيد من انتهاكات حقوق البشر والدول والاستيلاء على مقدراتهم ومصائرهم لخدمة مصالح هذا التحالف. الحلف الأمريكي الإسرائيلي، الذي يستعجل الانخراط العملي في ملف تأهيل قطاع غزة، قرر أخيرا ألا ينتظر تحقيق المصالحة والعمل مع السلطة كشريك في غزة، ولم يعد ينتظر اتفاق أو تفاهمات محبوكة ومعلنة حول التهدئة المطلوبة. الدعوة الأمريكية للمجتمع الدولي لكي يقدم المساعدات لقطاع غزة، كانت معلنة وتناقلتها وسائل الإعلام، وعلى الفور استجابت قطر فدفعت ثمن السولار لتشغيل محطة توليد الكهرباء، وخصص أميرها مئة وخمسين مليون دولار. المساعدات المغربية في طريقها إلى غزة، وأشكال أخرى من المساعدات لتخفيف وطأة الحصار الذي تأن تحته غزة، في طريقها إلى الوصول.
تغضب السلطة وتتهم حركة حماس بالتساوق مع صفقة القرن التي تستهدف فصل غزة، وربما تتخذ المزيد من الإجراءات فوق ما اتخذته وساهمت في تعميق المأساة الغزية، ولكنها لا تستطيع منع المؤسسات الدولية من البدء في تنفيذ عديد المشاريع في مجالات الطاقة والصحة والبيئة والتشغيل. مفردات مخطط تأهيل غزة كما يخطط له الحلف الأمريكي الإسرائيلي لم تتضح بكاملها لكنها على الأرجح تتخذ طابع الخطوات المتدرجة. حين دخلت أول الشاحنات التي تحمل السولار إلى غزة، صرح مسؤول إسرائيلي بالقول، أنه ينتظر سلوك حماس. وبرأينا فإن التهدئة ستتخذ طابعا واقعيا، حيث تقابل كل خطوة بخطوة، مما يعني أن مسيرات العودة لن تهدأ دفعة واحدة وبين ليلة وضحاها. حركة حماس من جانبها تتحدث عن بدأ كسر الحصار، وبأنها لم ولن تدفع أي ثمن سياسي، وبأن مسيرات العودة هي التي يعود لها الفضل في إرغام إسرائيل على كسر الحصار. في الواقع لم تشترط إسرائيل أو الولايات المتحدة على حماس ان تقبل الاعتراف بإسرائيل، أو نبذ ما يسمى بالإرهاب، ولا نرجح أن حماس يمكن أن تقبل بمثل هذه الشروط. غير أن حكم السياسة والنتائج، ستظهر من خلال التطورات الواقعية، كمثل الأب الذي يزوج أبنته بمهر قيمته دينار، ويشترط خمسين ألف كمهر متأخر. هذا النوع من المهر الذي يظهر الأب على أنه يشتري الرجل الزوج ولا ينظر إلى المال، هو أكثر تكلفة من أي مهر يجري تخصيصه. القصد أن كل هذه الفزعة الإنسانية، هدفها سياسي بامتياز، وهو تعميق الانقسام حتى الفصل، واستعجال التحول نحو تنفيذ مخططات توسعية في الضفة الغربية، فضلا عن تعميق وتسريع عملية تهويد القدس.
لا ننكر أن قطاع غزة يحتاج إلى الانقاذ وإلى كل أنواع وأشكال المساعدة، ولكن من خلال الخيار الوطني الذي يستدعي إنهاء الانقسام وإتمام المصالحة، وتلك مسألة أكثر من مستعجلة.