النجاح الإخباري - شكّل لقاء المستشار النمساوي الحالي، سيباستيان كورتس، برئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الاثنين الماضي، ذروة التحوّلات في الموقف التقليدي للنمسا تجاه القضية الفلسطينية، والذي تبنته حكومات هذه الدولة على مرّ السنين، منذ حرب يونيو/ حزيران عام 1967 عندما أقرّت بالحق الدائم للشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وإقامة دولته إلى جانب دولة الاحتلال، بما يتناغم والمواقف الأوروبية، التي قامت أيضاً على عدم الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل. وتمثّل هذا التحوّل اليوم بتعهد المستشار الجديد بأن بلاده "لن تمنع الدول الأوروبية من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل"، خلافاً للموقف العام لدول الاتحاد الأوروبي.
وتنبع أهمية تصريحات كورتس هذه، والتي أدلى بها في مقابلة أجرتها معه الثلاثاء الماضي صحيفة "يسرائيل هيوم"، من كون النمسا ستتولى بدءاً من مطلع يوليو/ تموز المقبل رئاسة الاتحاد الأوروبي، خلفاً لإيطاليا، ووزيرة خارجيتها السابقة فيديريكا موغيريني (مفوضة السياسات الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي حالياً)، التي تصنفها تل أبيب على أنها تحمل مواقف معادية لإسرائيل، وهو ما دفع نتنياهو إلى رفض استقبالها في زيارة كانت مقررة لها للأراضي المحتلة قريباً، وتمّ إلغاء الزيارة كلياً.
وتناغمت تصريحات كورتس لصحيفة "يسرائيل هيوم" مع وصف نتنياهو لكورتس بأنه "صديق حقيقي لإسرائيل"، وأنّ الأخيرة تترقّب تولّي النمسا رئاسة الاتحاد الأوروبي. وكي يتسنّى للقارئ معرفة حجم التحوّل الهائل في العلاقات بين البلدين، يكفي التذكير بأن حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ غولدا مائير وحتى مناحيم بيغن عرفت فترة من التوتر، لدرجة إطلاق وصف "اليهودي السيئ" على المستشار النمساوي الاشتراكي، برونو كرايسكي، الذي شغل منصب مستشار النمسا لأطول فترة في تاريخ البلاد منذ الحرب العالمية الثانية بين عامي 1970 و1983. وأعقبت هذه الفترة، فترة توتّر إضافية خلال تولي الأمين العام السابق للأمم المتحدة كورت فالدهايم، منصب مستشار النمسا، وذلك بعد اتهامه، بسبب مواقفه المؤيدة للفلسطينيين، بأنه كان ضابطاً في الجيش النازي، وما تبع ذلك من ضغوط إسرائيلية لمقاطعته، لا سيما على ضوء إطلاقه خلال عمله أميناً عاماً للأمم المتحدة، بين عامي 1972 و1981، تصريحات مناهضة لسياسة الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وهو ما حال دون انتخابه أميناً عاماً لولاية ثالثة. لكنّ فالدهايم تمكّن من الفوز في الانتخابات النمساوية عام 1986، إلا أنّ حملة إسرائيلية لمقاطعته "على ضوء الاتهامات له بأنه كان ضابطاً نازياً"، أدّت إلى فرض عزلة أوروبية عليه حتى نهاية ولايته عام 1992.
ومع أنّ هذه الفترات شهدت توتراً في العلاقات بين إسرائيل والنمسا، إلا أنّ التعاون السري بين البلدين، خصوصاً في أتون الحرب الباردة، لم يتوقّف يوماً. وشكّلت النمسا عملياً منذ اعترافها بدولة الاحتلال عام 1948 وتوقيع اتفاق لدفع تعويضات لإسرائيل عن دور فيينا في الحرب العالمية الثانية، بوابة خلفية لتهريب اليهود من الاتحاد السوفييتي إلى إسرائيل.
وبعد عام 1992، تحسّنت العلاقات بين الطرفين، إلا أنّها عادت وتوترت مجدداً مع انضمام حزب "الحرية" اليميني في النمسا بقيادة يورغ هايد للائتلاف الحكومي، وقامت إسرائيل على أثر ذلك بإعادة سفيرها من النمسا إلى تل أبيب، واستمرت هذه القطيعة لمدة ثلاث سنوات، لتعود وتُستأنف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 2003. لكن حتى خلال تلك الفترة، ظلّ التعاون، وخصوصاً في مجال الأمن والاستخبارات، مستمراً بين الطرفين، في ظلّ استمرار توظيف إسرائيل للهولوكوست وفظائع النازية في ابتزاز النمسا، التي حافظت طيلة هذه الفترة على الالتزام بالمواقف المعلنة للاتحاد الأوروبي، ولا سيما في ما يتعلّق بمسألة القدس وحل الدولتين، ورفض الاستيطان واعتباره مناقضاً للقانون الدولي.
لكنّ التحوّل الأخير في المواقف المعلنة للنمسا تعزّز بعد فوز كورتس، على الرغم من إعلان حكومة الاحتلال رسمياً عن مقاطعة وزراء حزب "الحرية" المشارك في الائتلاف الحكومي الحالي، وهو إعلان لم يمنع عدداً من مسؤولي حزب الليكود الحاكم في إسرائيل من الاجتماع مع عدد من أعضاء حزب "الحرية" البارزين، بزعم أنّ الحزب يعلن اليوم مواقف مناصرة لإسرائيل، وتخلّى عن إرثه المعادي للسامية، ويدعم الرؤية الإسرائيلية العامة في كل ما يتعلّق بمناهضة ومعارضة "الإرهاب الإسلامي" في أوروبا، وخطر فقدان القارة العجوز لهويتها الغربية. وتغلّف إسرائيل عداءها وتحريضها على الإسلام اليوم بحديثها المتكرّر عن أنها خط الدفاع الأول عن العالم الغربي، وهو المسوغ نفسه الذي ساقه نتنياهو في لقائه الأخير مع كورتس، لتبرير طلب دعم النمسا أيضاً لإخراج القوات الإيرانية من سورية.
وفي هذا السياق، لا ينفي عضو الكنيست المتطرف من حزب الليكود، يهودا غليك، المعروف بنشاطه الحثيث لإعادة بناء الهيكل، وسبق أن تعرّض قبل عامين لمحاولة اغتيال في القدس على هذه الخلفية، لا ينفي أنّ سبب دعوته لتطبيع العلاقات مع حزب "الحرية" والاعتراف به، هو عداء هذا الحزب للمهاجرين المسلمين في أوروبا، بالإضافة إلى توظيف هذا الحزب لمواجهة حركة المقاطعة الدولية للاحتلال، ولا سيما أنّ غليك يدّعي هو الآخر ومع كثيرين من رموز اليمين الإسرائيلي، أن حزب "الحرية" تنصّل من إرثه التاريخي المعادي للسامية ولإسرائيل. ويتفق الطرفان (اليمين الإسرائيلي واليمين النمساوي) وأحزاب اليمين في أوروبا، بما فيها أيضا حزب "الجبهة الوطنية" في فرنسا، على وجوب المحافظة على هوية أوروبا في وجه "التمدّد الإسلامي".
وقد وظّف نتنياهو في لقائه مع كورتس، عنصر الخوف على مستقبل أوروبا وهويتها الغربية، عند تحذيره من أنّ بقاء إيران في سورية، يعني المزيد من عدم الاستقرار والحروب، وبالتالي المزيد من موجات المهاجرين المتدفقين على أبواب أوروبا. وقد تطرّق كورتس إلى هذه النقطة في المقابلة مع "يسرائيل هيوم"، عندما قال: "نحن نؤيّد ذلك (إخراج إيران من سورية)، فلا حاجة لمزيد من السلاح هناك، ولا سيما من قبل إيران. نعن نعرف أن طهران تخطّ على صواريخها عبارات تدعو لإبادة إسرائيل، والمطالب الأمنية الإسرائيلية مفهومة كلياً. على إيران أن تغيّر سياستها تجاه إسرائيل".
وبالرغم من إبراز الملف الإيراني والموقف الحالي من إيران، عمق التغيير في العلاقة بين إسرائيل والنمسا، إلا أنّ الملف الأساسي الذي يشغل بال إسرائيل وينسجم مع الاستراتيجية التي وضعها نتنياهو في العقد الأخير، هو الملف الفلسطيني، لجهة تحييد مواقف أوروبية تصرّ على حلّ الدولتين، أو على وجوب وجود موقف أوروبي موحّد مناهض للموقف الأميركي من القدس والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وهو ما يعد كورتس الآن بتغييره، إذ أكّد للصحيفة أن بلاده مع ترؤسها للاتحاد الأوروبي في يوليو، "لن تضغط على أيّ من الدول الأوروبية التي أعلنت عن عزمها على نقل سفاراتها للقدس، كما هو الحال بالنسبة للتشيك".
إلى ذلك، تعهّد كورتس بأن يركّز الاتحاد الأوروبي تحت قيادة النمسا، في الأشهر الستة المقبلة، على ملف "محاربة العداء للسامية، إذ إنه من غير المعقول أن يشعر اليهود في جزء من عواصم أوروبا بعدم الأمن. علينا أن نحارب كل أنواع العداء للسامية، وأن نحاول خلق تفهّم أكبر للوضع الخاص لإسرائيل واحتياجاتها الأمنية الخاصة".
وتعني تعهّدات كورتس هذه، في حال تطبيقها، منح إسرائيل فترة من الطمأنينة الحرة من الضغوط الأوروبية بكل ما يتعلّق بملف الاستيطان والقدس، وتحويل الأنظار إلى أكثر عنصر يخدم السياسة الخارجية الإسرائيلية، وهو إخفاء جرائم الحرب وممارسات الاحتلال العنصرية، والعودة لإبراز "ضحوية" دولة الاحتلال واليهود جراء الخطر الذي يهددهم. وهو ما قد يشكّل دفعة قوية للحرب الإسرائيلية على حركات المقاطعة الدولية واتهامها، كما يجري حالياً، ولكن هذه المرة بدعم من رئاسة الاتحاد الأوروبي، بأنها تنطلق من دوافع العداء للسامية وليس مناهضة سياسات إسرائيل. (رأي اليوم)