كلية الأداب - جامعة النجاح الوطنية - يمان محمد أقرع - النجاح الإخباري - تدورُ في العالَم رحى حربٍ ضَروسٍ بين لغات الأرض، يتراشقُ فيها الخصومُ رصاصَ الكلام، ويتنازعون حقَّ التّكلُّمِ بلغاتهِمُ الأمّ. وهي حربٌ أشدُّ فتكًا وتهديدًا من الحرب العسكريّة؛ فإذا كانت هذه الأخيرة تُودِي بحياة النّاس وتلحق الخسائرَ المادِّيَّةَ الفادحةَ، فإنَّ الأولى تمحو الهُوِيَّةَ، وتطمسُ معالمَ الحضارة لأمَّةٍ ما؛ لأنَّ اللُّغةَ حلقةٌ واصلةٌ بين ماضي أبنائها وحاضِرِهِم، فإذا هُزِمَتِ اللُّغة كُسِرَت تلك الحلقةُ الواصلة، فيُنسى الماضي ويَضيعُ التّاريخ بما يحمل من دلالات.
وبما أنَّ اللُّغة العربيَّة لغةٌ من بين سبعة آلافِ لغةٍ ينطق بها أهلُ الأرض؛ فلا شكَّ -إذن- أنّها ليست بمنأًى عن هذه الحرب الضَّارية، وبالفعل فهي تصارع فيها منذ عقودٍ؛ للصُّمود في وجه عوامل السُّقوط؛ داخليَّة، وخارجيَّة.
فعلى الصّعيد الخارجيّ، وضعتِ الدّول الاستعماريّة الكبرى خططًا من شأنها العمل على دمج الشُّعوب المُستعمَرة، قسرًا، مع الشُّعوب المُستعمِرة. ولَعَلَّ المثالَ الجزائريَّ خيرُ مثالٍ على ذلك من واقعنا العربيِّ؛ حيث حاولت فرنسا دمجَ الشَّعب الجزائريِّ وصهرَهُ كرهًا مع الثقافة الفرنسيّة، وتذويب الهُوِيَّة القوميَّة واللُّغويّة العربيّة له. ومثالٌ آخر ما قامت به “الحركة الصّهيونيَّة” في فلسطين؛ حيث أَنشَأتِ الجامعة العبريَّة في القدس سنةَ 1925م، فكانت تمهيدًا لقيام “الدَّولة” المزعومةِ.
وفي الوقت ذاتِه، فإنَّ اللُّغة العربيَّةَ، لغتَنا الأمّ، مُحارَبةٌ من قِبَلِ أبناءِ جلدتها؛ شعوبًا، وحكوماتٍ. فنحن نرى -يوميًّا- تهميشًا للُّغة العربيَّة، وطغيانًا للُّهجات أواللُّغات الأجنبيَّة على حساب هذه اللُّغةِ الأمّ، فأصبحت مركونةً في المعاجمِ، لا يتكلَّمُ بها إلا قلائلُ. علاوةً على ما سبق، فقد باتتِ اللُّغات واللَّهجات تجتاح الأحاديثَ اليوميَّةَ ومواقعَ التَّواصل الاجتماعيّ، والأسوأ من ذلك أنْ نراها تتسلّلُ إلى وسائل الإعلام الرَّسميّة والمؤسّساتِ التّعليميّةِ المُختلِفة. وهنا ننتقل إلى التَّفصيل في التّحدّيات التي تواجه العربيّة من الحكومات والجهات الرَّسميّة العربيَّةِ، وكما ذكرنا آنفًا، فقد أصبحتِ اللَّهجات واللُّغات الأجنبيّة تجتاح وسائل الإعلام والمؤسّسات التّعليميَّة، ويعود ذلك بالتَّأكيد، إلى السِّياسات اللُّغويّة الّتي تنتهجها دولةٌ ما، خُذْ على سبيل المثال، دَسْتَرَةَ الأمازيغيّةِ لغةً رسميّةً إلى جانب العربيّة في الدُّستور المغربيّ سنةَ2011 م، وإنْ كنّا لا نشكّ بكون الأمازيغيّة – بنوعيّاتها الثلاثة- لغةً وطنيّة ثانيةً في التراب المغربي؛ فإنّ ما نرفضه – بالطبع- اتّخاذ خصوم العربيّة من “دَسْتَرَة الأمازيغيّة” مطيّة لمحاربة العربيّة الَّتي اُعتُبِرَت مُؤخَّرًا لُغةً رسميّةً في الأمم المُتَّحِدة.
زِدْ على ذلك أنَّ ما يحدث حاليًّا في معظم الجامعات العربيَّة – إنْ لمْ تكن كلّها- من تدريسِ العلومِ باللُّغاتِ الأجنبيَّةِ؛ الإنجليزيَّةِ في المشرق، والفرنسيَّةِ في المغرب العربيِّ، يشكّل خنجرًا طاعنًا في خاصرة العربيَّة، وعائقًا يقف أمامَ خروجِها مُنتصِرةً من حرب اللُغات، إذ إننا نرى باستمرارٍ طلّابًا يتخلَّوْنَ عن أحلامهم في دراسةِ العلوم المُختلِفة؛ لما يلاقونه من صعوباتٍ في فهم العلومِ بلغاتٍ غيرِ لغاتِهمُ الأمِّ، فينجم عن ذلك اتّساع الفجوة بين العلْم والحياة.
خلاصةُ القول: إنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ بما هي لغةٌ أمٌّ لعددٍ كبير من سكَّان العالم تخوض الحرب ببسالةٍ كبيرةٍ، وتضطلعُ بدَورٍ كبيرٍ لحماية نفسها من هجمةٍ شرسةٍ تتعرَّضُ لها من لغاتٍ أُخرى تمتلك نفوذًا اقتصاديًّا وسياسيًّا يجعلُها تتقَدَّمُ وترتفعُ على أكتاف العربيّة. لذلك كلِّه؛ حَريٌّ بنا نحن أبناء هذه اللُّغة أنْ نجابِهَ عنها؛ لنبقيَها لغةً حيَّةً، وألّا نُبقيَها مركونةً إلى زوايا المعاجم، وأنْ نسعى لتطبيق سياساتٍ لُغويّةٍ تمنحُ المواطنَ حقَّ اِستعمالِ لغة الهُوِيَّة فوق ترابها؛ انطلاقًا من مبدأِ “التُّرابيَّةِ اللُّغويّة”، وإنصافا لمتكلِّميها، فتسمو بنا اللُّغة ونسمو بها إلى المعالي؛ فدفاعُنا عن لغتنا دفاعٌ عن ذواتِنا كذلك؛ لأنَّ اللُّغة جزءٌ مهمٌّ من ذواتِنا.
أُكثِّفُ كلَّ ما سبق بأسطرٍ شِعْريَّةٍ لمحمود درويش، يقول فيها:
“لغةٍ تفتِّشُ عن بنيها
عن أراضيها وراويها
تموت ككلِّ من فيها
وتُرمى في المعاجم”.