كتب غازي مرتجى - النجاح الإخباري - في المسائل الخلافية يعود ذوو الاختصاص لـ "الأصول".. والأصول في معجم اللغة تعني ما يُبنى عليه غيره ولا يُبنى هو على غيره. وفي المجالات المختلفة فإن أصل الشيء هو الدليل للوصول للنتيجة فحتى في الزواج قد تتغاضى العائلة عن طيش "العريس" وتعتمد على أصوله (جذوره) إيمانًا منها بأن العرق دسّاس خيره وشره.
في وضعنا الفلسطيني، لمن لا يعلم فإن اتفاقية أوسلو التي تم توقيعها في سبتمبر 1993 تنص على إنشاء سلطة حكم ذاتي لفترة انتقالية تمتد فقط لخمس سنوات.
وقّع الاتفاقية المرحوم ياسر عرفات بصفته رئيسًا لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد اعتراف إسرائيل بالمنظمة ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني.
هندَس الاتفاقية أمين سر المنظمة في حينه محمود عباس، ومن أهم بنودها: البدء بمفاوضات الحل النهائي بعد ثلاث سنوات للوصول في العام 1999 – بحد أقصى- إلى إنشاء دولة مستقلة وطي مرحلة الحكم الذاتي التي على أساسها أقيمت أول انتخابات تشريعية ورئاسية اعتُمد بها نظام أساسي صيغ على اعتبار أنها فترة حكم ذاتي ستنتهي بعد حين.
نكثت إسرائيل باتفاقها مستغلة انحياز الولايات المتحدة لها وضعف المجتمع الدولي، أمر أدّى إلى ابقاء سلطة الحكم الذاتي إلى وقتنا هذا، وبالتالي فإن الانتخابات الرئاسية والتشريعية الثانية (2006) تمّت وفقًا لاتفاق أوسلو وقوانين سلطة الحكم الذاتي.
منذ انتخابات عام 2006 التي فازت فيها حركة حماس بأغلبية في المجلس التشريعي واجه الرأي العام ومن قبله المُشرّع ازدواجًا في المعايير وتفسيرًا غريبًا للنصوص القانونية تعتمد بالأساس على مرجعية المُفسّر الحزبية، لكن الثابت الوحيد أن الجميع يعلم أنه يندرج تحت سلطة حكم ذاتي كان من المفترض أن يُعلن الرئيس ياسر عرفات انتهائها والانتقال لدولة لكن ذلك لم يحدث.
في العام 2012 حصلت فلسطين على عضوية دولة في الأمم المتحدة فصار المُشرّع حيرانًا بين إعلان دولة في الـ 88 بالجزائر واتفاق أوسلو وكذلك الاعتراف العالمي بدولة تعيش تحت احتلال وبأحكام وقوانين سلطة الحكم الذاتي التي كانت انتقالية وصارت فيما بعد (شبه دائمة)!.
لن نعود لقانونية إجراء الانتخابات التشريعية الثانية تحت مظلة أوسلو دون اعتراف من شارك بها بالقوانين التي فرضتها المظلة، ولن نتحدث عن قانونية الأطر القيادية سواء أكانت في منصب (رئاسة السلطة) أم (رئاسة التشريعي) أو حتى (المجلس التشريعي) وما انبثق عنها من مُسميات وأجسام قيادية مختلفة.
يكفي الاطلاع على بيان وزير العدل في حكومة الوفاق الذي لم يُشكّل وفق قوانين "أوسلو"، وإنما وفقًا للوقائع التي فرضها الانقسام والتي أحالت غالبية قضايا الخلاف في أجسام سلطة الحكم الذاتي إلى التوافق الداخلي أو دعونا نُطلق عليها المحاصصة.
سنعود هنا للأصول على اعتبار أن الأجسام الحالية كلها (بما فيها منصب الرئيس) في غياهب عدم الشرعية كما تقول (حماس) في بيانات كتلتها في المجلس التشريعي.
الأصول التي على أثرها تشكلّت سلطة الحكم الذاتي تعود لمنظمة التحرير (اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية)، واللجنة التنفيذية لا تتخذ قرارًا منفردًا، وإنما يحكمها قوانين وقرارات يُصدرها ويُقرها (المجلس الوطني الفلسطيني) وفي حال عدم انعقاده يحل محله (المجلس المركزي) الذي أسس لطبيعة الوضع الفلسطيني المشتت.
عودة لهذا الأساس فإنّي سأعتبر أنه تم حل سلطة الحكم الذاتي بكامل فروعها بدءًا من الرئيس وليس انتهاءً بالمجلس التشريعي والحكومة.
من سيحل محل رئيس السلطة الذي أُعلن عن حل سلطته؟ .. ففي العودة للأصول نتحدث عن عودة الولاية القانونية لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وهو في وضعنا الحالي هو ذاته رئيس سلطة الحكم الذاتي، وللتوضيح فإن لدى مؤسسة ما "مدير عام" لكن من يقرر تعيينه أو التمديد له هو (مجلس الإدارة) وفي مثالنا فان (رئيس سلطة الحكم الذاتي هو المدير العام) و(مجلس الإدارة يتكون من اللجنة التنفيذية للمنظمة ورئيسها هو رئيس مجلس الإدارة)، وعليه، فإن رئيس مجلس الإدارة (رئيس المنظمة) يعتبر مسؤول (رئيس سلطة الحكم الذاتي) وفي الحالة الفلسطينية فإن رئيس المجلس هو المدير العام ذاته.
أما المجلس التشريعي فإنه يُحّل ونعود للأصل (المجلس الوطني) علمًا أنّ المجلس التشريعي التابع لسلطة الحكم الذاتي أُنصف بإدراج جميع أعضائه في المجلس الوطني (المظلة البرلمانية الأكبر). وهذه المعادلة (أعضاء التشريعي أعضاءً في المجلس الوطني) تشير إلى قانونية ومنطقية العودة للأصول باعتبارها أعم وأشمل.
وإن تحدثنا عن الحكومة التي في كل شاردة وواردة تتحدث كتلة حماس في المجلس التشريعي عن عدم قانونيتها لعدم عرضها على مجلس تشريعي (سلطة الحكم الذاتي) فإنّ قوانين المجلس المذكور تقول إنّ تعطل تشريعي سلطة الحكم الذاتي يعني ممارسة رئيس سلطة الحكم الذاتي صلاحياته فما بال رئيس رئيس سلطة الحكم الذاتي (وهنا رئيس الرئيس هو رئيس م.ت.ف وهو الرئيس أبو مازن ذاته).
لو تجاهلنا القانون المذكور فإنّنا سنعتبر الحكومة المذكورة مُشكلة وحاصلة على الثقة من رئيس رئيس سلطة الحكم الذاتي وحازت على الشرعية من المجلس المركزي الذي ينوب عن المجلس الوطني، عليه فيُمكننا اعتبار أن الحكومة عُرضت على مظلة تشريعي سلطة الحكم الذاتي (المجلس الوطني) وبالتالي فقد حصلت على اعتراف البرلمان الأشمل من المجلس التشريعي محدود الحدود.
للتوضيح أكثر فإننا أمام شركة بها موظف ورئيس قسم ومدير عام. (الحكومة = الموظف) و(رئيس القسم = المجلس التشريعي) و(المدير العام = المجلس الوطني) فإنّ الموظف إن حاز على ثقة المدير العام فعلى رئيس القسم أن يقوم بتنفيذ القرار كون المدير العام هو المظلة العامة للشركة ما يعني أن الحكومة قد حازت على ثقة رئيس مجلس الإدارة (رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة)، وبالتالي هي تحوز على ثقة الأصول كلها.
قد يذهب البعض للقول إننا الآن دولة بصفة "مراقب" حازت على ثقة 138 دولة في العالم وأصبحت الدولة 194 في الأمم المتحدة, فلماذا لم نذهب لأن تكون "دولة فلسطين" هي الأصل لا "منظمة التحرير"؟ لمن لم يقرأ قرار الاعتراف بفلسطين كدولة مراقب فإن البند الأول في مشروع القرار الذي مُنحت فلسطين على أساسه الاعتراف ينص على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي المرجعية للدولة، وهي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده. وضع هذا البند لم يأت من باب الترف وإنما لحفظ حق الفلسطينيين في كل بقاع الأرض وضمان عدم ضياع قضية اللاجئين واللذين تمثلهم المنظمة في كل الأماكن.
قد لا يخطر ببال أحد أن اقتصار التمثيل الفلسطيني على "مجلس تشريعي ورئيس لسلطة حكم ذاتي" أو حتى "رئيس وبرلمان دولة فلسطين" له دلالات سياسية خطيرة، فإن كانت المُدخلات في معادلة القانون الدولي هي مؤسسات الحكم الذاتي أو حتى مفاصل دولة فلسطين على أراضي 67 فإنّ الناتج الأساسي لتحييد منظمة التحرير (الأصل) هو ضياع قضية اللاجئين واعتبار أن الفلسطينيين المشتتين في بقاع الأرض بلا ممثل لهم، وبالتالي لا حقوق لهم ولا قضية تجمعهم.
توصيف الحالة القانونية المتشعبة والمرتبطة سياسيًا بإفرازات مشهد معقد داخليًا اقليميًا ودوليًا يتطلب العمل "الذكي" نحو تأصيل الحالة الفلسطينية قانونيًا.
إن الانتقال خطوة للأمام نحو الإعلان عن دولة تحت الاحتلال و"حل" سلطة الحكم الذاتي بشكل رسمي بما تحمل من إفرازات قانونية والتحول نحو مأسسة دولة فلسطينية معروفة الصلاحيات في حدودها المُعترف بها يتطلب بلا شك إعادة تأهيل منظمة التحرير من جذورها بدءًا من المجلس الوطني المظلة الفلسطينية الأكبر مرورًا بإعادة تشكيل لجانها وانتخاب لجنة تنفيذية جديدة قادرة على قيادة المشروع الوطني ونقل المنظمة من حالة التكلّس التي تُعاني منها لتتمكن من إعادة الاعتبار لـ"الأصول" بدلًا من اعتبار "الفروع" أصولًا بسبب ضعف الأصول الناجم عن تحييدها والذي كان في فترة ما مُتعمدًا.