كتب غازي مرتجى - النجاح الإخباري -
يحضرني دومًا باروميتر العالم الفيزيائي نيلز بور الحائز على جائزة نوبل فقد أصرّ مدرسه على عدم نجاحه بسبب اجاباته غير النموذجية رغم كونها صحيحة . فقد طُلب منه وزملائه معرفة طول ناطحة سحاب باستخدام الباروميتر (الباروميتر أداة لقياس ضغط الهواء). "نيلز" لم يُجب اجابة مدرسه النموذجية وحصل على طول ناطحة السحاب بطرق مختلفة أصعبها من خلال "الظل" وأسهلها بإعطاء الباروميتر لحارس ناطحة السحاب ورشوته لإبلاغنا بالطول المطلوب ولم يُغفل نيلز طريقة إلقاء الباروميتر من أعلى ناطحة السحاب لمعرفة الطول بحساب الزمن أو ربط الباروميتر بـ"الحبل" ومعرفة طول الحبل بعد لمسه للأرض . هذه الطرق المختلفة تُواجهنا في كل مجالات حياتنا فلكل مشكلة حلول متعددة تحكمها طبيعتها وما يُحيط بها من جهة وأسبابها ودوافعها والنتيجة المطلوبة من جهة أخرى . تمر القضية الفلسطينية بأحلك ظروفها منذ النكبة فبعد اعلان الرئيس الأمريكي عن اعترافه بالقدس كعاصمة لدولة الاحتلال ضغط "بعض" العرب على القيادة الفلسطينية باتجاه الإقرار بذلك وعدم المواجهة فيما استمرّت حكومة اليمين المتطرف بمساعيها لفرض الاستيطان لاستخدامه في أي حلول مستقبلية والاسراع في عملية تهويد القدس عدا عن حصار القطاع واستمرار عمليات الاعدام الميداني بدم بارد .
لو استخدمنا باروميتر نيلز (المُعدل) لقياس الضغط الذي يُمارس على الرئيس أبو مازن لعجزت عملية القياس وفي الوقت ذاته يُمكن قياس مدى التعارض في بعض التصريحات الصادرة عن الأذرع القيادية الفلسطينية ما تسبب في تأكيد عدم المقدرة على قياس الضغط المُمارس عليها . القيادة التي تُجرّب عدة طرق مختلفة لمجابهة قرار ترامب لم تستقر حتى اللحظة على الإجابة التي ستُرضي الشارع الفلسطيني من جهة وتكون فعّالة في تقويض هذا القرار الذي سيُغير معالم المستقبل حال استمرار تنفيذه . فخطاب الرئيس في القمة الاسلامية التي عُقدت في تركيا رسم خطوطًا عريضة ويُمكن القول أن الرئيس أرد الوصول للحد الأقصى حتى لا يفتح المجال لأي جهة للتلاعب واستغلال الموقف . إن سلكت القيادة الفلسطينية طريق "نيلز" الذي حاز على جائزة نوبل في الفيزياء رغم إصرار مُدرسه على عدم نجاحه بسبب إجاباته في السؤال المذكور يُمكن القول حينها أن القضية الفلسطينية ستعود بروحها وكينونتها التي تحاول كل الجهات ضرب عدالتها وديمومتها .
سيُعقد اجتماع المجلس المركزي ورغم اعلان حركتي حماس والجهاد عدم المشاركة فيه إلا أن اعلان دولة فلسطين دولة تحت الاحتلال وفقًا لقرار الأمم المتحدة 2012 والبدء بتفعيل ذلك على الأرض والانسلاخ عن سلطة الحكم الذاتي التي نشأت عن أوسلو ستكون ردًا حقيقيًا على القرار الأمريكي . اعلان دولة فلسطين لن يُغير في الواقع كثيرًا لكنها خطوة سياسية متقدمة يُمكن البناء عليها . من الواجب تذكير المُجتمعين أيضًا بضرورة إلغاء اتفاق باريس الاقتصادي والذي بموجبه قد تقوم إسرائيل بوقف تحويل المقاصة لحشر القيادة في زاوية خطرة مع مواطنيه . اجتماع المجلس المركزي وقراراته يجب أن تكون فورية التنفيذ حتى لا يصل المواطن إلى مرحلة "الراعي والغنم" برفع سقف توقعاته وقراراته دون تنفيذ كما قرارات الاجتماع الأخير للمركزي في مارس 2015 .
سألت قيادي فلسطيني عن الوضع السياسي القائم والقادم فأجاب بمختصر الكلام :"نحن كالقابض على الجمر" القيادي الذي لم يُخف تشاؤمه من قادم الأيام إلا أنه على ثقة أن المواطن الفلسطيني يعلم يقينًا أن قيادته تواجه الدولة العظمى دون تراجع وأي قرار للضغط عليها وابتزازها سيتضرر منه المواطن لا شك . فمن المتوقع أن تُوقف اسرائيل المقاصة بعد اجتماعات المجلس المركزي وبالتالي ستكون الحكومة مُجبرة على اعلان التقشف على حالة التقشف الحالية والركن إلى إمكانية مساندة العرب لقرارات المركزي ضئيلة بل قد تكون معدومة وقد تم تجربة ذلك سابقًا . ذات القيادي أبدى امتعاضه من تصريحات بعض الفصائل الفلسطينية والتي تم إبلاغها بشكل رسمي عن الضغوط المُمارسة على القيادة الفلسطينية والمخططات الأمريكية – الاسرائيلية التي تريد تقويض القضية الوطنية برمتها وإنهائها مرة وإلى الأبد .
العام 2018 لن يكون سهلًا على فلسطين وفي ذات الوقت هو عام حاسم . المخططات الأمريكية التي فضحها كتاب النار والغضب تكشف عن خطة لتصفية القضية الفلسطينية بذات المخطط المطروح منذ زمن انور السادات "ايجورا آيلاند" وتوالت محاولات فرضه وأُعيد إحياؤه زمن الانقسام الفلسطيني بعد الانسحاب الاسرائيلي أحادي الجانب من القطاع . المشروع الذي يعتبر وصفة لتصفية القضية الفلسطينية سيمر لا شك طالما استمر الداخل الفلسطيني في أرذل حالاته وأكثرها دُونية . فرغم قرار ترامب الذي يُوجب على أطراف الانقسام تجاوز كل المعيقات والاستمرار في هجوم المصالحة إلا أن الأسابيع الستة السابقة (أي منذ قرار ترامب) أعادت الأصوات النشاز التي تزيد هوّة الانقسام تشكيل نفسها عدا عن بعض الممارسات غريبة التوقيت . ورغم ذلك فإن القيادي الفلسطيني أكدّ لي أنه ورغم المحاولات المستمرة لعرقلة كل تقدم إلا أن قرار الرئيس أبو مازن الاستمرار في المصالحة مهما كلّف ذلك .
كي تستقيم التحركات القيادية مع التحركات الشعبية لا بُدّ من الوقوف طويلًا أمام الحالة الشعبية التي تتراجع بشكل لم تتوقعه أكثر الأوساط "سلبية وتشاؤمًا" . فاستمعت لبعض القيادات التي حملّت حالة الطقس المسؤولية وآخرين هاجموا نظرائهم في الفصائل وعند سؤال ذوي العلاقة (أي المواطن) فأسهل الإجابات أن الثقة بينه وبين القيادة الفلسطينية "ضعيفة" . "الثقة" التي تتحدث بها الأوساط المُتفاجئة من برود رد الشارع على أخطر قرار في تاريخ القضية الفلسطينية هي عذر أقبح من الذنب فالقدس ليست للقيادة الفلسطينية والمليون متضامن في أندونيسيا والآلاف في الأردن وعشرات الآلاف في أوروبا ومئات في أمريكا لا يقتادون بواسطة القيادة الفلسطينية "غير الواثق بها" المواطن في الداخل !. ورغم ذلك سنستمحي القدس عذرًا لنقول أن على القيادة الفلسطينية أن تُصارح مواطنيها بكل كبيرة وصغيرة وتحدد النتيجة المطلوب الوصول لها بعيدًا عن طرق "نيلز" للحل والتي تتعدد وتتنوّع فمنها ما يُرضي الرأي العام وأخرى تغضبه لكن في المُحصلة يجب أن لا تؤثر على الهدف المطلوب .