النجاح الإخباري - تتنقل أم أيمن بين محال الجزارة التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في دير البلح بوسط قطاع غزة، علها تفلح في شراء كيلوغرام أو اثنين من اللحم لطهيه مع الأرز لأبنائها الستة وأحفادها الثلاثة في اليوم الحادي عشر من شهر رمضان، بعد أن أعياهم تناول المعلبات في الإفطار والسحور.
تتفاجأ الفلسطينية البالغ عمرها 50 عاما بغلاء أسعار اللحوم التي تجاوزت 150 شيكل للكيلوغرام الواحد، فتسيطر عليها ملامح الصدمة والغضب معا وهي تتحاور مع الجزار حول صحة السعر، ليبتسم الأخير مؤكدا لها أنه السعر الحقيقي، ويتوقع كذلك ارتفاعه خلال الأيام القليلة المقبلة.
الأم النازحة مع عائلتها من شمال القطاع إلى وسطه قبل أربعة أشهر تنفث أنفاسها بعمق وتهز برأسها يمنة ويسرى متمتمة ببعض الكلمات لصديقتها التي رافقتها من مكان نزوحهما، قبل أن تجلس على الرصيف وهي تنظر للخراف المذبوحة المعلقة قبالتها تارة، ورافعة يديها إلى السماء تارة أخرى قائلة "حسبي الله ونعم الوكيل".
تتحدث الأم عن حزنها إزاء عدم قدرتها على الإيفاء بوعدها لأبنائها وأحفادها بإعداد إفطار شهي لهم بعد حرمان طيلة أشهر الحرب، فضلا عن مرور عشرة أيام من رمضان دون تناول أي من الأكلات التي اعتادوا عليها خلال شهر الصوم.
تسيطر الحسرة والحيرة على أم رائد، وهي التي كانت تمني النفس بإدخال الفرحة على عائلتها، لكن الغلاء وتراجع قدرتها الشرائية لتعطل زوجها وابنها الأكبر عن العمل منذ بداية الحرب حرمها من شراء الطعام الذي يرغبون فيه.
توضح الأم أن النازحين يعيشون حالة حرمان مستمرة من كل الاحتياجات والمستلزمات غير المتوفرة أو التي ارتفعت أسعارها بصورة لا سابق لها، الأمر الذي أفقدهم القدرة على تلبية متطلبات حياتهم.
وقالت أم رائد "كان أبنائي يتناولون بعض المعلبات أو أي بقوليات مطبوخة من التكية القريبة، لكن في رمضان وبعد طول صيام ينتظرون إفطارا يقيت أجسادهم التي ضعفت لطول أمد الحرب".
وأضافت "كل يوم نصبرهم بأن إفطار اليوم التالي سيكون مختلفا ومقبولا بعيدا عن الفول والزعتر والفلفل الأحمر المفروم الذي ملوا منه، لكن الحقيقة أن تناول اللحم حلم لن يتحقق أبدا بهذه الأسعار".
ونفدت كل الطيور، سواء دجاج أو ديك رومي أو حمام، بعد شهر من اندلاع الحرب وتعرض المزارع الكبيرة للتدمير، مما تسبب في زيادة الاعتماد على لحوم الأبقار والخراف التي زادت أسعارها لأكثر من ثلاثة أمثال.
وعزا الجزار خليل دعبس الارتفاع الكبير في أسعار اللحوم إلى نفاد الأبقار من المزارع وبدء توريدها بأعداد محدودة جدا من مصر، بينما شحت المواشي من خراف وماعز من الأسواق نتيجة نفوق أعداد كبيرة منها في القصف الإسرائيلي، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع سعر الكيلوغرام الحي منها إلى 15 دينارا أردنيا في حين كان سعرها لا يتجاوز خمسة دنانير قبل الحرب.
وبينما يشير دعبس إلى العدد المحدود من محال الجزارة التي تعمل وتقلص كميات اللحوم المتوفرة لديها مع تراجع حاد في القوة الشرائية للفلسطينيين في قطاع غزة، يؤكد أنه لا سبيل لتراجع الأسعار سوى باستيراد أعداد كبيرة وبشكل مستمر من الأبقار والخراف والدواجن.
وتتشابه أحوال النازحين في الحرمان لأشهر طويلة من الأطعمة الأساسية، ما يتسبب في أمراض مرتبطة بسوء التغذية وفقدان الوزن والقدرة على التركيز والحركة.
الفلسطيني أبو رائد صافي (54 عاما) توقف عن البحث عن اللحوم لإدراكه أنه لا يستطيع شراءها حتى عندما كان بنصف السعر الحالي، وظل يبحث عن الدجاج المجمد المستورد من مصر ويباع عبر منافذ بيع تحددها وزارة الاقتصاد في جنوب قطاع غزة بأسعار مرتفعة لكنها أقل من اللحوم ويمكن لبعض النازحين تحملها.
يسأل الرجل صاحب نقطة بيع تابعة لوازرة الاقتصاد على مقربة من مكان نزوحه بشكل يومي عن مواعيد وصول الدجاج المجمد، ليخبره بعدم علمه بموعد محدد وأن الموردين يبلغونه صباح اليوم المقرر بالذهاب إلى معبر رفح لاستلامها.
لم ييأس الرجل وظل على هذا المنوال من السؤال وسماع ذات الرد، حتى صادف وجوده مع وصول كميات من الدجاج المجمد ليعود إلى منزله لجلب ثمنها، ثم يفاجأ عند عودته لنقطة البيع بوجود طابور طويل أمامه.
يصر أبو رائد على الوقوف حتى جاء دوره ولم يأخذ سوى ثلاث دجاجات لعائلته وعائلتي ابنيه المتزوجين، بسعر يتراوح بين 20 و30 شيكلا للدجاجة الواحدة.
يقبل الرجل بالمتاح رغم عدم كفايته لنحو 26 فردا في العائلات الثلاث، ويعود أدراجه إلى خيمته المطلة على شاطئ البحر، فتستغرب زوجته عودته بعد طول غياب بثلاث دجاجات وتطلب منه البحث عن عدد مماثل حتى يشبع الأبناء والأحفاد من الطعام الذي لم يتناولونه منذ أكثر من ثلاثة أشهر.
يحاول أبو رائد الحصول على ثلاث دجاجات إضافية من نقطة البيع دون أن ينجح في ذلك، ليضطر إلى البحث عنها في السوق الموازية ويشتريها بمثلي سعرها.
يصف الرجل حصول النازحين على اللحوم أو الدجاج بأنه "حلم صعب المنال ولا يتحقق للغالبية العظمى منهم حاله حال أشياء كثيرة يحرمون منها"، لافتا إلى أن حياتهم تحولت إلى طوابير حتى لشراء الأشياء التي تدفع ثمنها وليس للحصول على مساعدة من مؤسسة إغاثية أو جهة إنسانية.
وتساءل قائلا "هل أصبح مجرد الشراء بسعر مرتفع ولكن ليس كثيرا حلما؟ كيف سيتصرف من لا يملك أي مصدر رزق وهو يرى غيره يشترى في نهار رمضان؟ أليس هذا عذاب يضاف لجحيم النزوح ورعب الحرب؟".