خلف خلف - رئيس التحرير - النجاح الإخباري - تميزت غزة بتغيرات ساحلية مهمة، فمنذ حوالي 6000 سنة كان الساحل يتألف من مصبات صغيرة عند مخارج الوديان الرئيسية. وخلال العصر البرونزي، أنتج هذا الساحل المتعرج مستوطنات بحرية مهمة مثل تل السكن وتل العجول عند مخرج وادي غزة، والذي ربما كان بمثابة مرفأ طبيعي. وخلال الفترة نفسها، تباطأ معدل ارتفاع مستوى سطح البحر، مما أدى إلى تكوين دلتا النيل ودلتا محلية صغيرة على طول سواحل سيناء وفلسطين.

حفريات تظهر الآثار القديمة في قطاع غزة

ومنذ الألف الأول قبل الميلاد تم تنظيم الساحل عن طريق ردم مصبات الأنهار والمستوطنات فأصبحت مواقع المرفأ غير ساحلية، لذلك تأسست مدن جديدة، مثل أنثيدون، على سلسلة من التلال الصغيرة على طول الساحل الحالي.

-مركز تجاري عالمي-

ازدهرت غزة في العصور القديمة كمركز تجاري على ساحل البحر الأبيض المتوسط ​​حيث تلتقي آسيا بأفريقيا، وكانت لقرون بوابة الصحراء لتجارة القوافل، لكن في منتصف القرن التاسع عشر كان لظهور وسائل تجارية عالمية جديدة وأهمها الملاحة البخارية علاقة وطيدة في تحول غزة من مدينة تجارية برية إلى مدينة ساحلية، تصدر اقتصادها من الحبوب خاصة الشعير إلى الأسواق الأوروبية، فاندمجت في سوق الحبوب العالمية وسميت بـ"صندوق الخبز"، لكن النعمة تحولت إلى نقمة، فرغم تحقيقها الأرباح الهائلة في البداية، إلا أن اقتصادها بمجمله بات يعتمد أكثر من أي وقت مضى على مناخها غير المستقر في نهاية المطاف.

- البداية موجة جفاف -

في بداية القرن العشرين، دمرت سلسلة من موجات الجفاف التي ضربت المنطقة محاصيل غزة ذات الزراعة الأحادية، مما جعلها محرومة من أي وسيلة للعيش عشية الحرب العالمية الأولى. وكانت هذه الضربة هي الأولى في سلسلة من التحولات التي من شأنها أن تحول منطقة غزة إلى محيط اقتصادي وسياسي هامشي بحلول منتصف القرن العشرين.

غزة القديمة

- منطقة معزولة عن العالم-

وازداد الطين بلة مع وقوع غزة تحت الاحتلال عام 1967 ما أدى إلى تجريدها تدريجياً من أراضيها وحرمها من أصولها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. لقد تحولت غزة نتيجة لهذه العملية التي دامت قرناً من الزمن من مركز اقتصادي إقليمي إلى محيط سياسي مهمل معزول عن العالم يحاصر سكانه الفلسطينيين البالغ عددهم نحو 2.3 مليون نسمة في شريط جغرافي ضيق، ويتعرضون لحروب متتالية قد تكون الأقسى في العصور الحديثة.

- الميناء ممنوع بأمر إسرائيلي-

ومنذ الاحتلال سلبت غزة من حقها في إنشاء ميناء تجاري خاص بها، وخصص الميناء الموجود لقوارب الصيد، وتحولت تجارة غزة إلى الموانئ الإسرائيلية وخاصة أشدود، ومنذ عام 1994 - في أعقاب اتفاقيات أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية - اعتمدت صادرات وواردات غزة على الموانئ الإسرائيلية، والتي كانت تتحرك عادة عبر معبر كارني الحدودي في شمال غزة. كما جرى استخدام مينائي العريش وبورسعيد المصريين لاستيراد وتصدير كمية أقل من البضائع عبر معبر رفح على الحدود الجنوبية لغزة.

عرفات في غزة

وفي مطلع العام 2000، باشرت السلطة الفلسطينية في بناء ميناء بحري صغير وسط مدينة غزة بتمويل أوروبي، لكن إسرائيل قصفته ودمرته في الانتفاضة الثانية -بعد ثلاث أشهر فقط من بدء بنائه. ثم استأنفت السلطة الفلسطينية البناء بعد الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة على إثر “اتفاقية المعابر سنة 2005″، التي تضمّنت بندًا ينص على عدم تدمير الميناء مرة أخرى.

- الانقسام زاد الطين بلة -

مع ذلك، أدى الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الثانية في العام 2006، وكذلك الانقسام الفلسطيني سنة 2007، عندما سيطرت حركة حماس على قطاع غزة، وما تبعه من حصار إسرائيلي خانق، قاد ذلك تدريجياً إلى وقف عملية التنمية في شتى المجالات، ومن ضمنها بناء الميناء. وفي ضوء تردي الأوضاع الاقتصادية وتصاعد الصراع والاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة طوال تلك السنوات، عاد الحديث من جديد حول الميناء بغزة سواء أكان ذلك على مستوى كسر الحصار، أم حتى محاولة تحسين الأوضاع الاقتصادية في القطاع الذي عانى معدلات بطالة وفقر غير مسبوقة.

ومع كل أزمة جديدة يعيشها القطاع المحاصر يجري الالتفات إلى البحر كمنقذ عبر إنشاء ممر بحري يربط غزة مع قبرص التي تبعد 230 أميال بحرية فقط، وهي بالتالي أقرب الدول الأوروبية إلى قطاع غزة.

- جزيرة صناعية -

ففي عام 2011 مع اشتداد الحصار على القطاع وعقب انطلاق سفن أسطول الحرية من ميناء قبرص إلى غزة لكسر الحصار، قدم وزير النقل الإسرائيلي يسرائيل كاتس خطة لبناء جزيرة صناعية قبالة سواحل قطاع غزة مع موانئ بحرية وجوية ومنطقة سياحية ومحطة لتحلية مياه البحر. أقترح الوزير أن تدار الجزيرة من قبل السلطة الفلسطينية تحت سيطرة دولية لمدة 100 عام على الأقل لضمان أمن إسرائيل. لكن الخطة فشلت بسبب رفض الحكومة الإسرائيلية  لها.

حماس تطالب بمطار  وميناء-

وعقب حرب عام 2014 طالبت حماس بإنشاء مطار وميناء في قطاع غزة ضمن اتفاقية وقف إطلاق النار التي رعتها مصر، وجرى تأجيل بحث الملف لاحقًا، ورغم دعم كبار قادة الجيش الإسرائيلي بشكل مبدئي فكرة إقامة ميناء في قطاع غزة وخاصة إذا كان بالإمكان ربط ذلك بإلزام حركة حماس باتفاق بعيد المدى لوقف إطلاق نار، وتوصية بعض الوزراء في الحكومة الإسرائيلية بأن تتجند إسرائيل من أجل إنجاح المشروع، إلا أن الخطة فشلت بسبب معارضة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، موشيه يعالون.

رسم يوضح المسافة بين غزة وقبرص

- ميناء مقابل هدنة -

وفي عام 2015 كشفت تقارير أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير اجتمع مرتين مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في الدوحة لمناقشة عقد هدنة طويلة مع إسرائيل مقابل رفع الحصار عن قطاع غزة ويتخلل الخطة إنشاء ميناء بحري في غزة تصل إليه البضائع بعد تفتيشها في ميناء لارنكا أو ليماسول في قبرص. لكن اللقاءات بين مشعل وبلير لم تثمر عن إي نتائج حقيقية على الأرض.

-نتنياهو يرفض-

في عام 2016، أعاد كاتس طرح مقترحه فحظي بالدعم الأولي من عدة وزراء إسرائيليين، لكن نتنياهو جدد رفضه.  وجاء رد حركة حماس على ذلك على لسان نائب رئيس المكتب السياسي آنذاك إسماعيل هنية الذي وصف إنشاء ميناء بغزة "حق أصيل لشعبنا الفلسطيني.. وكان يجب تحقيقه بعد توقف العدوان في العام 2014".

مقترح ميناء عائم لغزة

وفي وقت لاحق من عام 2016، أعلن وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أن: "إسرائيل ستوافق على... بناء ميناء بحري تحت إشراف (إسرائيل) (في غزة)". وقد كرر رئيس الوزراء الإسرائيلي هذا الموقف، ولكن فقط "إذا كانت إسرائيل لديها رقابة"، لكن المشروع لم يتقدم.

وعقب سلسلة جديدة من الأحداث الأمنية والسياسية والاقتصادية في غزة، جدد ليبرمان مناقشته لفكرة انشاء جسر بحري من غزة وذلك خلال زيارته لقبرص بتاريخ 21 يونيو/حزيران 2018.

ثم توالت المقترحات، وكان منها "رؤية مكانية لمحافظات غزة"، والتي تركزت على معايير الاقتصاد بحلول العام 2050، وقد طرحت 70 مشروعًا تحفيزيًا من ضمنها فكرة "ميناء عائم"، من أجل مجابهة التحديات التي وردت في تقرير الأمم المتحدة (غزة غير صالحة للحياة بحلول عام 2020).

-المقترح يعود من جديد-

وعقب هجمات 7 أكتوبر عام 2023 وما تلاها من حرب مدمرة على القطاع، اعيد طرح فكرة إنشاء ممر بحري يربط ميناء لارنكا بسواحل غزة.

ويبعد ميناء لارنكا عن غزة نحو 370 كيلو متر (230 ميل)، بالتالي ستحتاج سفينة تسير بسرعة 14 عقدة بالساعة (العقدة تساوي 1,852 كيلومتر) إلى نحو 14 ساعة سفر بين النقطتين، يضاف إلى ذلك وقت ما قبل السفر من الميناء وفترة الانتظار عند الوصول، وخاصة أن السفن ستخضع لعملية تفتيش إسرائيلية دقيقة في الميناء القبرصي قبل ابحارها.

- بديل و3 سيناريوهات -

وتقوم فكرة إيصال المساعدات إلى غزة على بديلين و3 سيناريوهات أولها على المدى القصير، نقل المساعدات من لارنكا إلى غزة بواسطة سفن شحن كبيرة وثم تفريغها إلى شواطئها عبر سفن الإنزال. والسيناريو الثاني سيكون على المدى المتوسط سيتخلله إنشاء منصة عائمة على سواحل غزة لتفريغ ناقلات البضائع، والسيناريو طويل المدى تدشين ميناء مغلق في المنطقة.

والبديل الأخير يتلخص - وفقا للعديد من التقارير - بشحن المساعدات من الموانئ في قبرص إلى الموانئ الإسرائيلية ومن ثم نقلها إلى نقطة الدخول الشمالية إلى غزة، وهو خيار تعارضه إسرائيل.

ورغم أن فكرة الميناء يروج لها الآن بدوافع إنسانية، إلا أن إسرائيل تتطلع من خلالها إلى "فك الارتباط الاقتصادي مع قطاع غزة"، وبالتالي التخلص من التزاماتها كدولة احتلال، وفقا لتقديرات العديد من السياسيين الفلسطينيين والمحللين.