وكالة أنباء العالم العربي - النجاح الإخباري - في ممر ترابي بين غرف من الصفيح، تجلس الستينية عائشة مطر على كرسي متحرك تُحاول أن تنعم بقليل من دفء شمس الشتاء التي تتوارى جزئيا خلف الغيوم، بينما تصوّب نظرها نحو غرفة صفيح مقابلة يتمدد فيها زوجها الذي أعياه المرض والتعب بعد رحلة نزوح بدأت قبل ثلاثة أشهر من مخيم جباليا شمال قطاع غزة.
تنادي المسنّة زوجها ليأتي للجلوس إلى جوارها أو لدفع كرسيّها إلى الداخل عنده؛ لكن انخفاض صوتها وضعف سمع زوجها يحولان دون سماع أحدهما للآخر. تواصل رفع صوتها المنهك قليلا، لكن دون جدوى؛ فتستعين بشابٍ من المارة ليخبر زوجها برغبتها في خروجه عندها، علّها تخفف من حالة الملل التي تصيبها وهي وحيدة بعدما تركت أبناءها خلفها في الشمال.
لكن الزوج المُتعَب يطلب من الشاب دفعها إلى الداخل لتجلس بجواره على فرش وأغطية مهترئة بغرفة الصفيح التي لم يتمكنّا من توفير أي من احتياجاتهما داخلها بعدما ابتلعت تكاليف النزوح والعلاج ما لديهما من مال.
تبدو أمارات المرض والإعياء على وجه السيدة وجسدها، وحتّى كلماتها؛ فهي تجد صعوبة في الكلام جرّاء إصابتها بالفشل الكُلَوي منذ ثلاث سنوات واضطرارها للخضوع لعمليات غسل الكُلى بانتظام، وهو الدافع الأساسي الذي حفّزها للنزوح من الشمال إلى دير البلح وسط القطاع خشية عدم قدرتها على الوصول للمستشفيات هناك إذا حاصرها الجيش الإسرائيلي، وهذا ما حدث بالفعل.
رحلة محفوفة بالمخاطر
بدأت عائشة رحلة نزوحها المحفوفة بالمخاطر عبر اجتيازها منطقة الحاجز العسكري جنوب مدينة غزة، الذي تُحيط به الدبابات الإسرائيلية من كل جانب آنذاك وصولا إلى دير البلح، حيث سَكَنت على مسافة بعيدة من مستشفى (الأقصى) الوحيد الذي يتوفر فيه غسل الكُلى، لتواجه صعوبات كبيرة في الوصول للمستشفى والعودة إلى مكان نزوحها.
بيد أن أكثر ما كان يقلقها ليس التكاليف المالية لأجرة المواصلات أو التنقل بواسطة عربات تجرها حيوانات، والتي لا تتوفر لديها، وإنما خضوع المستشفى لحصار الجيش الإسرائيلي كما حدث في مدينة غزة وشمالها، وبالتالي عدم قدرتها على الخضوع لغسل الكُلى وتَهَدُّد حياتها.
لم تتمكن عائشة من النزوح إلى داخل المستشفى، ولم تعثر على أي سكن في محيطه، حتى وجدت ضالتها في مخيم للنازحين في طور التجهيز والترتيب يبعد مئات الأمتار عنه، خُصّص الجزء الأكبر منه للمرضى المترددين على المستشفى بشكل منتظم عدة مرات أسبوعيا.
وقالت السيدة الستينية في حديث لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) "المهم أن أكون قريبة من المستشفى، بصرف النظر عمّا يتوفر من إمكانات أخرى بالمكان؛ الفكرة مناسبة وتخفف من صعوبات التنقل وتكاليفها للمرضى وتضمن الوصول سريعا للمستشفى".
أضافت "كُنتُ أغسل ثلاث مرات أسبوعيا، والآن مرتين جراء الضغط على قسم غسل الكلى؛ لكنّ الانتقال للمستشفى أيسر خلال دقائق عبر دفع زوجي لكرسيّ المتحرّك على طريق أسفلتي".
وأدت الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ أكثر من أربعة أشهر إلى نزوح حوالي 1.9 مليون شخص من سكان القطاع البالغ تعدادهم نحو 2.2 مليون؛ ونزح معظمهم عدة مرات، حاملين معهم ما تبقى من متاعهم.
في مقابل ثنائها على فكرة المخيم وتوفيره الجهد والوقت والمال على المرضى المترددين على مستشفى (الأقصى) في ظل القصف المستمر، فإن عائشة تدعو إلى توسيع المخيم ليستوعب أعدادا إضافية، فضلا عن توفير خدمات تتعلق بالحمامات والأغطية والطعام ونحوها، خصوصا أن المرضى عموما منهكون صحيا وغير قادرين ماليا.
غياب الخدمات ومقومات الحياة
في غرفة صفيح أخرى بزقاق مجاور، يتمدد الطفل عدي أبو عفش (11 عاما) المصاب بالالتهاب الكبدي الوبائي على فراش مهترئ وإلى جانبه والداه، اللذان يضطران للذهاب به إلى المستشفى كلّما ساءت حالته الصحية، فضلا عن المراجعة المنتظمة لابنهما بلال (16 عاما) الذي أصيب في قصف إسرائيلي سابق.
تُبيّن الأم سوسن أبو عفش، النازحة من مدينة غزة، أنها كانت تقضي جُلّ أيامها في التنقل والعودة من المستشفى وإليها بابنيها اللذين يحتاجان متابعة طبيّة مستمرة حتى لا تتدهور حالتهما الصحية، لكن وجودها في مكان نزوح قريب من المستشفى يوفّر عليها كل معاناة التنقل وتكاليفه.
بيد أنها تُطالب بتوفير مقوّمات الحياة الأخرى ودعم المرضى وعائلاتهم من قبل المؤسسات الإنسانية، خصوصا على صعيد توفير الأدوية والأغذية ومتطلبات النزوح الأخرى، مشيرة إلى أن عائلتها المكونة من ثمانية أفراد يعانون البرد الشديد ولا يتوفر لديهم سوى أقل القليل من الطعام.
وقالت سوسن لوكالة أبناء العالم العربي "المخيّم يضمن لنا الوصول للمستشفى بأمان إذا ما حدث اجتياح إسرائيلي أو محاصرته، وإلا فحياة ابنيّ الاثنين مهددة في أي لحظة وهما بعيدان عنه؛ كل المرضى وعائلاتهم يحسبون ألف حساب للحظة حرمانهم من الوصول للمستشفى".
ويوفر المخيم 32 غرفة من الصفيح مساحة الواحدة منها 16 مترا مربعا؛ ويجري تجهيز 40 غرفة إضافية، بينما تجري الاستعدادات للمرحلة الثالثة، التي تشمل 40 غرفة جديدة، وفق المشرف على المخيم ماهر عقل، الذي يؤكّد أن لجنة المناصرة الأردنية الممولة للمشروع منحت الأولوية للمرضى، خصوصا المصابين بالفشل الكلوي المترددين على مستشفى (الأقصى) الذي لا يبعد سوى 300 متر عن موقع المخيّم.
وأشار المشرف إلى أن العمل جار لتمديد شبكات المياه والصرف الصحي وإلى أن المستفيدين يفتقرون إلى الفُرُش والأغطية وكثير من مقوّمات الحياة اليومية، مؤكدا محدودية أعداد الغرف المتاحة مقابل الأعداد الكبيرة من الأشخاص المضطرين للنزوح إلى المخيم.
وقال ماهر "تتردد علينا يوميا أعداد كبيرة من النازحين، سواء أصحّاء أو مرضى؛ لكن الإمكانات محدودة ولا يمكننا تلبية كل هذه الاحتياجات؛ فالجميع يريد الحصول على مكان قريب من المستشفى، فضلا عن غرفة الصفيح، التي تعدّ أفضل بكثير من الخيمة أو العريشة".
أضاف "الإيواء الآن مهمّ للغاية، خصوصا للفئات الضعيفة والمهمّشة؛ لذلك، فإن المطلوب توجيه العمل الإنساني إلى توفير مآوٍ آدمية بموازاة توفير الطعام والشراب، لأن المأوى بالنسبة لكثير من المرضى والمعاقين ونحوهم يمثل علاجا ونجاة".
وكانت اللجنة الدائمة المشتركة بين وكالات الأمم المتحدة قد حذّرت من تفشي الأمراض في قطاع غزة ومن أن المجاعة تلوح في الأفق، مشيرة إلى أن المياه شحيحة والبنية التحتية الأساسية مدمّرة وإنتاج الغذاء متوقف. كما تحولت المستشفيات إلى ساحات معارك، ويواجه مليون طفل صدمات يومية.
وقالت اللجنة في بيان لها الأسبوع الماضي "يشهد النظام الصحي تدهورا متفاقما تترتب عنه عواقب كارثية"، مضيفة أن 12 مستشفى فقط من أصل 36 من المستشفيات التي لديها قدرة استيعابية للمرضى الداخليين مستمرّة في العمل جزئيا وأن مرافق الرعاية الصحية في غزة تعرضت لأكثر من 370 هجوما منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول الماضي.
وتعد اللجنة الدائمة المشتركة التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرار صادر في عام 1991 أعرق منتدى تنسيق إنساني والأعلى مستوى في الأمم المتحدة، والذي يجمع بين 19 من المنظمات الأممية وغيرها لضمان اتّساق جهود الاستعداد والاستجابة وصياغة السياسات والاتفاق على أولويات العمل الإنساني.