منال الزعبي - النجاح الإخباري - حين يحاور الآباء طيف أبنائهم، وتتحول الحياة إلى كابوس بشع كلما دقّ القلب، تأكّدت الحقيقة، الصحفي وكاتب السيناريوهات محمد أبو شمالة كان يصنع من ابنه كريم نجمًا يتلألأ وسط أحلام عائلة كاملة طمرها الاحتلال تحت الركام بصاروخ استهدف مبنىً مكونًا من ثلاثة طوابق أحال ساكينه إلى أشلاء وشهداء وجرحى فاقدين لأحبتهم وأحلامهم.
مجزرة عائلة أبو شمالة في مخيم البريج بلوك رقم 6، والتي وقعت يوم الأربعاء 25/10/2023 وراح ضحيتها 24 شهيدًا لكل منهم قصته وأحلامه.
يروي الصحفي محمد أبو شمالة لـ"النجاح"، تفاصيل ما حدث، يقول: " كأنها أهوال يوم القيامة، فقدت ابني الذي كان أملي في هذه الحياة، فقدت أمي نور عيني، فقدت أبي سندي وعزوتي، فقدت أخوتي وأبناءهم، فقدت أهل زوجتي مثلما فقد كريم فرحته في عيد ميلاد انتظره طويلًا وخطط له كثيرًا، ولم يعلم أن عيده في الجنة". محمد عبّر عن حجم الكارثة حيث كتب على صفحته على الفيس بوك:
وأضاف لـ"النجاح" أنّ صاروخا إسرائيليًّا دمر بيتهم في مخيم البريج المكون من ثلاثة طوابق، وقتل 21 فردًا من عائلته وثلاثة من أنسبائه من عائلة زيادة لجأوا إلى بيت ابنتهم طلبًا للأمان فلقوا حتفهم.
الدور الأرضي وفيه أهله وعائلتين من إخوته وابنه كريم مع أولاد عمه، وفي شقة محمد في الطابق الثالث لجأ أهل زوجته من عائلة زيادة، انفجار جاب أعلى المبنى أسفله، ليصبح محمد تحت الركام مغيّبا عن الوعي.
وصف محمد الحال بقوله: "مشهد أسود احتل الرماد كل المكان حتى القلب، عرفت حين تم نقلي إلى المشفى أنني أصبت وإصيبت زوجتي وبدأت الأسماء تظهر تباعًا، وأموت مع كل اسم أسمعه من أهلي وأحبتي، كل من في الطابق الأرضي استشهدوا ومعهم شقيقات زوجتي وابن أخيها".
وكرر بإلحاح وكأنه يؤكد لنفسه الخبر: "استشهدت أمي وأبي أخوتي.. واستدرك يفصّل وكأنه يراهم أمام عينيه:
"إحنا ست شباب نجوت أنا وفقدت ابني فلذة كبدي كريم وأخي حسين نجا وفقد زوجته وابنه الكبير وظلّ من أبنائه سمير وأسماء، واستشهد أخي أيمن (41 عامًا) وزوجته و4 من أبنائه، وظلَّ ابنه محمد وعمره13 عاما
واستشهد أخي اسماعيل وزوجته وأبناؤه محمد وزينة وظلت سلمى بالصف الرابع، واستشهد أخي أحمد وأولاده الأربعة أكبرهم أمير بالصف الثالث، وأصغرهم أربعة شهور وظلت زوجته وحدها، واستشهد أخي ابراهيم قبل أن يحقق حلمه بالزواج، وفقدت زوجتي شقيقتيها وابن أخيها الذين كانوا في ضيافتنا.
وأضاف: "الآن كل من في غزة نازح ولاجئ والصورة ضبابية جدًا رمادية كصورة غزة ".
وعاد يتحدث عن كريم الذي كان عيد ميلاده التاسع في الخامس من تشرين الثاني أي بعد أيام: "لأول مرة كان ملحًا على عيد ميلاده ينتظره بفارغ الصبر ، كريم ليس كباقي الأطفال كان مليئا بالحياة والطموحات هذه الإجازة كرّست نفسي لأجله، أعلمه الفروسية والرمي، ويرافقني في تصوير مشاهد الإعلانات، هو صاحبي وبطلي وحلم حياتي، ونور عيون أمه، انطفأ وانطفأت معه الحياة بالنسبة لنا، لا حياة أصلا في غزة أحاول أن أتذكر كيف كنا نعيش قبل الحرب ولا أستطيع تخيل ماهو قادم ننتظر الموت كل لحظة، الموت متوقع مع كل ضربة وانفجار، لم نعد نأبه بالموت بل ننتظره، راح الغوالي ولم يعد شيئا مهما بعدهم".
غزة التي باتت بحاجة إلى معجزة لترميمها وترميم نفوس من ظل من أهلها، وقد دخلت شهرها الثاني من مخاض تلد فيه مئات الشهداء كل يوم، نزفت حتى اليوم 10328 شهيدًا، وأكثر من 25 ألف جريح، ومساحة هائلة دكتها صواريخ الاحتلال على رؤوس أهلها ففرغت من كل شيء.
محمد تحدث عما يعيشه هو وزوجته من ألم الفقد مثلهم مثل آلاف الغزيين الذين لم يستيقظوا بعد من كابوسهم، بكى محمد بحرقة، ولم يستطع أن يكمل حديثه. قال لنا: "لا أعرف كيف أعيش بعد هذا المصاب الجلل. لا أعرف كيف أواجه الحياة والموت. لا أعرف كيف أتحمل هذا الألم والفقد. لا أعرف كيف أنسى كريم وضحكته وعينيه. لا أعرف كيف أسامح الاحتلال والعالم على ما فعلوه، أحب كريم، وأفتقده كثيرًا، وأتمنى أن ألتقي به في الجنة".
حنين زيادة أم كريم، باحت ففاض الحزن في ثنايا كلامها، روت القصة التي رواها زوجها محمد أبو شمالة إلا أنها أخبرتنا أن كريم طلب الشاي قبل أن يستشهد بلحظات وذهب ليحضر "البسكويت"، دخلت المطبخ تحضر له ما طلب وكانت تراه أمامها من النافذة لحظة وقوع الصاروخ الذي فصل الوعي وحطم الصورة، لتستيقظ حنين في مكانها بين يدي المسعفين، يحاولون أخذها للمستشفى وتصر على البقاء بحثًا عن ابنها وعائلتها، قالت: "كريم كان مربي عصفور لونه أخضر وحلو، شفت العصفور بعد القصف ظل يحوم فوق الركام، صرخت كتير وترجيتهم يبحثوا عن كريم يمكن عايش، يمكن تحت الركام، بس قطعوا أملي حكولي كريم مات، مات".
مدرس كريم الذي كان يعلمه الرياضيات، والذي كان يحبه، شهد شهادة كانت ستثلج قلب أمه لو كان حيا:
“كنت أحب كريم كثيرًا، وكنت سعيدًا بتفاعله واهتمامه بمادة الرياضيات في الفترة الأخيرة، لا أعرف أي عزاء أقدّم لأهله ولغزة كلها".
كتب والد كريم التهنئة التي جاءت وكأنه إما شخص يهذي، أفقده الفقد عقله، أو مؤمن مسلّم بقضاء الله وقدره رغم انفطار القلب، وهو حال أهل غزة "منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".