شبكة النجاح الإعلامية - منال الزعبي - النجاح الإخباري - خسارة لا تقاس بالأرقام أو الإحصاءات هي خسارة الهوية والذاكرة لعائلات في غزة اختفت بالكامل من الوجود، بعد أن سقطت عليها قنابل إسرائيلية، مسحت أفرادها من السجل المدني بقصصهم وأسمائهم.
ولنكن صوتهم وذاكرتهم ندون قصصهم ونوثق أحداثها، عائلة الفرا في خانيونس جنوب قطاع غزة إحدى العائلات التي دمّرها الاحتلال وشتت شملها وقتل 37 شهيدًا من أفرادها باستهداف آثم لم يترك عجوزا أو طفلا، عروسا أو امرأة، بل دفن 37 قصة وحلمًا، قصة توفيق ليست آخرها.
تواصلنا مع الشاهد على المجزرة ابن عمه الدكتور محمد رشدي الفرا، بكلمات خجلى مثقلة بالعزاء، ليخبرنا تفاصيل ما حدث، فكانت الحكاية:
توفيق الفرا طبيب أسنان ماهر شاب وسيم لديه أحلام وطموحات وزوجة يحبها وينتظر وإياها مولودًا كل ليلة يتفاوضان على تسميته، منذ بدء الحرب على غزة وكل فرد فيها يتجرع الحسرات على أحبة وجيران وأصدقاء، لا يدري أحدهم متى يأتي دوره، فيترك بصمة له هناك على رفوف مواقع التواصل تدلل على حجم المأساة وانعدام إنسانية عدو فَجَر في عدوانه.
آخر ما كتب توفيق: "
لم يكن يعرف أنه وعائلته المأساة القادمة في الصباح الباكر من اليوم ذاته، حيث أطلت شمس الأربعاء 25/10 من بين سحاب أثقلته القذائف حتى اسود لونه، بعد ليل طويل من القصف ،كان أفراد العائلة يستعدون لبدء يومهم بشكل عادي، العم أبو توفيق يشرب قهوته في البلكونة، وابنه حاتم يطعم قطته، بينما تفوح رائحة مناقيش الزعتر بين يدي أم توفيق في المطبخ، وفي الصالة يجلس الدكتور توفيق حاملًا هاتفه يتابع آخر الأحداث، بينما تغفو زوجته المحامية دانا الحامل في شهرها الرابع، أما أخته ريم، العروس التي كان من المفترض أن تتزوج نهاية هذا الشهر، يشغلها عرس دون فرح أو بهجة في ظل الحرب، وصغيرة البيت هلا، التي تستعد لامتحاناتها على أصوات القصف كل ليلة، بيت كامل له ما له من تفاصيل حياة قرر العدو الإسرائيلي إنهاءها في كبسة زر، صاروخ محمّل بالحقد المتفجر قطع الصباح وأنهى الحكايات.
قال د. محمد واصفًا الحدث: "دوى انفجار هائل، هز المبنى بشدة. سقطت قذائف إسرائيلية على البيت، محولة إياه إلى ركام. طار العم أبو توفيق وابنه حاتم من البلكونة، وأصيبا بجروح خطيرة، وانطبقت الطوابق الأربعة على رؤوس ساكنيها؛ ليتحولوا إلى جثث تحت الركام".
وأكمل: "هرع أهالي الحي إلى مكان الحادثة، لمساعدة الناجين من عائلة الفرا، وجدوا أشلاء بعض الجثث قد تناثرت في محيط البيت، قاموا بنقل من استطاعوا منهم إلى المشرحة، ودفنوهم في مقبرة قريبة. ولم يتمكنوا من إخراج باقي أفراد العائلة من تحت الأنقاض، لعدم توفر المعدات والوقود والكهرباء، من تحت الركام يأتي صوت صراخ وأنين، توفيق لا زال حيًّا، كان يستغيث بصوت مكسور: "أنقذوني… أنقذوني… أنا حي… أنا حي…"
ولكن لم يستطع أحد إنقاذه. ظل صوته يصدح في الآذان ويمزق القلوب العاجزة عن إنقاذه حتى ظهيرة الجمعة، ثم انقطع فجأة، لم يدرك أحد مصيره حتى صباح السبت، حيث استطاع بعض المتطوعين إزالة جزء من الركام، والوصول إلى جثته، وجدوه غارقًا بدمائه ممسكًا بجواله بيده، يتصفح أخبار المجزرة التي راح ضحيتها هو وعائلته.
كان يبحث عن أمل في الحياة، ولكنه لم يجده. قاموا بإخراج جثته بعناء، ودفنوه بجوار أفراد عائلته الذين حكم عليهم الاحتلال بالموت قهرًا وسلبهم أحلامهم.
وأضاف الشاهد محمد الفرا: "بعد بحث طويل بأساليب بدائية، وجدنا جثة المحامية دانا زوجة توفيق لم استطع التعرف عليها إلا من دبلة زواجها المحفور عليها "توفيق حب للأبد"، وتم دفنها لعدم مقدرة المشرحة على استقبال الجثث.
أما كريمة الفرا والتي تعيش في الإمارات، تحز الغربة قلبها مع كل خبر يخص عائلتها وأولاد عمومتها، فقالت: أخبرني أقاربي من الحدث أن صوت توفيق كان مسموعا، ظل ينادي حتى وقت الظهر .. وانقطع صوته بعدها!"
وتساءلت بحرقة ودموع: "أيدرك أحدكم كمّ الأمل الذي كان يملكه توفيق عندما كان ينادي ليخرجوه! جميعهم لم يستطعوا ازاحة الركام حتى انقطع صوته! أتساءل كيف تحمل فكرة أنه على قيد الحياة، في انتظار الموت، كان يعلم أنهم يحاولون لكن لا معدات ولا وقود ولا أدنى إمكانيات لديهم تزيح الركام لتمنح ضحية فرصة أخرى للحياة".
ثم قالت: "كيف أغمض عينيه، هل كان ينزف، هل تألم أم نام من شدة التعب حتى ارتاحت روحه؟!
قبل أيام من استشهاده وعائلته، كتب:
لا بد أن الله قد لباه واستجاب لاستغاثته واصطفاه شهيدا مع 8005 شهداء قدمتهم غزة منذ السابع من أكتوبر حتى اليوم في حرب لا يتكافأ فيها الخصمان، أحدهم صاحب حق وآخر محتل معتدٍ أثيم لا يملك ذرة إنسانية.