نابلس - مريم نواورة - النجاح الإخباري - في أقصى الشرق من مدينة السلام قرية دار صلاح، البوابة الأولى لمدينة بيت لحم حيث الهدوء والسكينة الروحانية التي يبعثها عبق هذه المنطقة، بساط أخضر مكسو بشقائق النعمان والأقحوان، عناقيد العنب السرمدية التي تعلو أفنية المنازل وتعانق السماء، لتشرق أإشعة الشمس عليها مسترسلة ورائحة الحصيدة التي ما زالت تغني عتابا، معلنة للحياة أنَّ الهبة الإلهية الساحرة تكون على هيئة لوحة فنية تبث الأمل والتجدد في الروح وتكاد من جمالها تحجز مقعد في متحف وطني.
تحت سقف إحدى هذه الأبنية على مساحة تكاد تكون صغيرة تتربع هي وأفراد عائلتها السبعة، تمسك بأناملها المشبعة بالتعب خيوط صوفية وصنارة بطريقة تدهش كلَّ من يراها من سرعتها الفذَّة، وقدرتها على حياكة مشغولات يدوية تراثية ذات رونق عظيم يحاكي تراث فلسطيني قد جار عليه الزمن لسنوات عجاف، إنها الخمسينية فاطمة الربايعة.
عيون ذابلة أحاطتها التجاعيد، وأنهكها تعب وسهر الليالي منذ ما يزيد عن أربعين عامًا من الحياكة ،ترنحت في الأرجاء بعدما خلعت ربايعة نظاراتها الطبية، التي تلازمها مؤخَّرًا، لتبدأ حديثها المتَّقد مستحضرة شريط ذكرياتها مع هذه المهنة، قالت لـ"النجاح": "منذ صغري شغفي وحبي للتراث لا يكاد ينتهي، في عمر (12) ربيعًا عندما بدأت أتعلَّم من أمي وجدتي هذه المهنة، خصوصًا فترة مرض والدي الذي اضطرني أنا و والدتي لحياكة المشغولات وبيعها لسد احتياجات العائلة".
بذكريات يعتصرها الألم والحنين إلى الماضي، تابعت الحاجة: "في ذلك الوقت لم يخلُ بيت من قطعة أو تحفة تراثية معلقة على جدرانه، تدل على عراقة التراث الفلسطيني، وكل النساء يتقنّ هذه الحرفة المتوارثة، أما اليوم تبدَّلت الأحوال وظهر جيل الفيس بوك الذي أضاع المهنة وفرَّط بالتراث، الأمر الذي بات يشكِّل هاجسًا في إمكانية الحفاظ على ديمومة هذا الإرث".
خيوط الصوف التي تنتقيها في كثير من الأحيان من الملابس البالية؛ لصعوبة توفيرها وحبل البئر الذي كان يستخدم قديمًا في سحب المياه بالإضافة لصنارتها التي تتمايل بين يداها، وسط فناء منزلها تعتكف مستمدة أفكارها من مخيلتها التراثية، التي عاصرت الفن التراثي القديم إضافة لاستعانتها في بعض الأحيان بمواقع تعليمية على الإنترنت .
أما هاجس الحسرة والخوف الذي يطارد فاطمة فيتجلى في قلة المردود المادي، وانعدام مصدر دخل ثابت لها، إضافة لعدم وجود جهات مسؤولة تدرك قيمة وقدسية الأعمال للحفاظ على التراث وتناقله بين الأجيال .
تستكمل ربايعة حديثها بعقد مقارنة، "هناك المئات من النساء الرياديات ذوات حرف يدوية وغيرها يتعرضن للتهميش المستمر سواء من المؤسسات النسوية أو غيرها "فمن عراقة الماضي في إظهار قيمة التراث واستحضاره في كلِّ وقت ومكان، إلى حالة من الركود والموت البطيء التي من شأنها أن تحول دون استمراره في السنوات القادمة.
وبيّنت أنَّ الحياكة اليدوية للمطرزات التراثية تحافظ على الإرث التراثي القديم من محاولات الطمس والاندثار، مبرّرة أنَّه الهوية المادية التي تركها أجدادنا لنا، فشعب بلا تراث هو شعب بلا جذور، في ظلّ ما يتعرض له من الاحتلال الإسرائيلي.
كما وترى ربايعة أنَّ صراعنا مع الاحتلال هو صراع إنساني وثقافي بالدرجة الأولى، قبل أن يكون صراعًا سياسيًّا، فقد حرص الاحتلال على توظيف كلِّ إمكانيته من أجل طمس الهوية الثقافية التراثية.
ربايعة كغيرها من النساء اللواتي يحلمن بإنشاء عمل خاص، يظهرن من خلاله دور المرأة الفلسطينية التي تتعالى على الأوضاع، وتقف صامدة مثل شجرة الزيتون، لكن الظروف تقف عائق لتستمر المعاناة.
رغم ذلك فإنَّ المتعة التي تشعر بها أثناء حياكتها هذه المشغولات، و دعم عائلتها ومحيطها لها كان بريق الأمل الذي أدخل شعلة الحب إلى قلبها وألهمها "حتى وإن لم استطع تسويق منتوجاتي المطرَّزة، فأنا أشعر بالسعادة الكبيرة عندما أزيّن بها منزلي وأقدّمها للناس كهدايا".