مارلين أبو عون - النجاح الإخباري - ما إن تطأ قدمك أرض السوق ومن بين الزحام الكبير ترى عربات حديدية يجرها أطفال دون سن الـ(15) عامًا، يختلفون في اللون والشكل والقوة ويتفقون في السبب والهدف.
تختلف حكايتهم المأساوية، فخلف كلِّ عربة وجع مستمر بسبب الظروف السيئة التي يمرُّ بها القطاع منذ سنين طويلة.
انتشرت ظاهرة عمالة الأطفال، وبالتحديد بالأسواق والشوارع، على الرغم من بدء العام الدراسي في محاولة من هؤلاء الصغار لمساعدة أسرهم التي تعاني الفقر والعوز.
تجوّل "النجاح" في سوق معسكر جباليا شمال القطاع المليء بالأطفال والشباب الذين يجرون العربات بصعوبة كبيرة، وتردد شديد في الظهور عبر وسائل الإعلام، استطعنا اقناعهم بأنَّنا لن نظهر وجوههم ولا حتى أسماءهم كاملة نزولًا عند رغبتهم.
سنشتكي المسؤولين أمام الله يوم القيامة
وحيد .أ ابن الـ(13) عامًا يقف بجوار سيارة الأجرة ليفرغ حمولة لامرأة مسنّة، مقابل أجر زهيد ثمَّ يعود إلى السوق مرّة أخرى، استوقفناه لنتحدَّث عن ظروفه التي جعلته يعمل في السوق تاركاً مدرسته وزملاءه قال: "أنا الولد الوحيد بين خمس بنات، أمي لم ترزق غيري من الصبيان، وقد انفصلت عن والدي قبل خمسة أعوام، تركنا وحدنا ولا معيل لأسرتي غيري، صحيح أعود بشواكل بسيطة بالكاد تطعمنا، لكن أفضل من أن نمد أيدينا للناس ونتسول".
وتابع: "تركت المدرسة قبل سنتين، وكم أتمنى أن أعود لأدرس وأدخل الجامعة وأصبح رجلًا محترمًا في المجتمع، وأستطيع بعدها أن أحصل على وظيفة تريحني من العذاب الذي أعيشه وأسرتي يوميًّا".
وختم حديثه بسؤال واضح قال: "نحن لم نختر حاضرنا ولا نعلم أيَّ مستقبل ينتظرنا، أين المسؤولون عنا وعن حياتنا؟ أيرضون أن يكون أبناءهم مكاني؟ سيحاسبهم الله يوم القيامة، سنشتكيهم لله لأنَّهم لم يراعواه فينا ."
مثلنا لايحق له أن يحلم
"خالتو ..معك أغراض تحبي أشيلهم وأوصلك وين ما بدك؟ " تلك العبارة خرجت من شفتي طفل صغير لم يتجاوز عمره العشرة أعوام، يجر عربته بصعوبة بالغة، فجسمه النحيل لا يقوى على سحبها لمسافات طويلة وهي مليئة بالأغراض للزبائن.
موسى عبد الرحمن، ترك تعليمه وألعابه المفضلة التي عشقها ليمتهن مهنة صعبة على طفل في سنه"عتال" فهو يساعد المشترين على رفع أغراضهم من خلال عربته المتهالكة، ويوصلهم لخارج السوق مقابل شيكل أو اثنين يقول: "تركت الدراسة منذ سنتين فأبي مريض قليلًا ما يدخل السوق ليبيع البقدونس والنعنع، أمّا أنا فأوصل الزبائن لخارج السوق، مقابل أن نعود لأمي بطعام يومنا، الحمد لله، وحينما سألناه عن أمنيته ،فاجأنا برده: "في حالتنا الأمنيات ممنوعة، لا يحق لنا أن نحلم، الأحلام لن تطعمنا ولن تسترنا."
ولم يختلف حال الفتى رامي .خ كثيراً عن موسى، الذي بدا وقد تعرَّق جبينه الصغير، وتساقطت قطراته على عينيه وقت الظهيرة، يدفع بيديه الصغيرتين السمرواتين "كروسة" بأربع عجلات وينادي على الناس مَن يريد أن أساعده على حمل مشترياته؟"، دفعته ظروف عائلته المعيشية الصعبة لبيع أحلامه أيضًا، ويؤكّد رامي أنَّ والده يعاني من الغضروف، ولا يستطيع العمل ويعيش على المساعدات، وهو طالب في الصف التاسع، معدله الدراسيّ جيّد، لكنَّه يستغل الإجازة في العمل بالسوق" لمساعدة والده في تيسير ظروفه المعيشية.
بمكان ليس ببعيد عن رامي يجلس الأخوان خالد 9(سنوات) وتيسير(سنة11)، ليأخذا قسطًا من الراحة بعد أن أنهكهما الجري ومزاحمة الناس في السوق، يتقاسمان رغيفاً من خبز الفينو ليسدا جوعًا قرص معدتهما الصغيرة، ومن ثمَّ يواصلان العمل حتى المساء، وحينما اقتربت منهما أخذا يلملمان بعضهما البعض خجلًا، وبعد أن طلبت منهما التحدّث قليلًا وهما يأكلان، بدأ تيسير الأكبر سنًا الذي يحتوي اخيه ويحميه في هذا السوق الواسع قال: "نحن لم نعرف للمدارس طريق ولم ندخل المدارس مطلقًا، فوالدي رحمه الله، كان مريضًا، وأمي كانت تبيع وتعمل أيّ شي لتعيل أبي وتعيلنا فقط من طعام وشراب، أما التعليم فهي لا تقوى على مصاريفه، فكان نصيبي ونصيب خالد أن نحمل الهم باكرًا ونساعد أمي وأخواتي سارة وفاطمة، لنستطيع العيش في هذه البلد التعيسة التي لا يوجد فيها غير الفقر والحرب والألم".
على الصعيد الآخر لم يقلل بعض المواطنين من حاجة هؤلاء الأطفال للمال بسبب فقر أسرهم، لكنَّهم عبروا عن تذمرهم من الزيادة الملحوظة في عدد هؤلاء الأطفال الذين يعملون على نقل البضائع عبر عربات صغيرة، مسببين مضايقات كبيرة.
مواطنة "فضلت عدم الكشف عن اسمها " كانت في سوق معسكر جباليا قالت: "يتكدّس هؤلاء الفتية في جنبات السوق، ويغلقون الممرات، ويصعبون على المشترين التجوّل بحرية".
وأوضحت، أنَّها اشتكت أكثر من مرّة من زيادة عددهم، وشدّة المضايقات التي يسببونها، ولا أحد يستطيع تقنين عملهم أو حتى تنظيمه، دون أن تقلل من أهمية الخدمات مدفوعة الأجر التي يقدمونها للمشترين في السوق.
أما المواطن أبوسامر الذي لم يبدِ أيَّ انزعاج من وجودهم فقال: "نحن نتعاطف مع هؤلاء المساكين فلولا ظروفهم المعيشيّة الصعبة لما وجدناهم هنا في السوق في الوقت الذي يجب أن يكونوا فيه على مقاعد الدراسة وفي أحضان أسرهم، في المستقبل سيصبحون رجالاً ،لم يمدوا أيديهم للحرام فهم يأكلون من عرق جبينهم، محمّلًا المسؤولين وأصحاب القرار مسؤولية أطفال السوق ومن يبيعون على الطرقات".
جدير بالذكر أن هناك اتفاقية عربية رقم (18 لسنة 1996م) بشأن عمل الأحداث، عرَّفت الطفل على أنَّه الشخص الذي أتمَّ الثالثة عشر عامًا ولم يكمل الثامنة عشر من عمره سواء كان ذكرًا أم أنثى، وحظرت عمل من لم يتم سن الثالثة عشر من عمره، وقد نصَّت على أنَّ أحكامها تشمل جميع الأنشطة الاقتصادية باستثناء الأعمال الزراعية غير الخطرة وغير المضرة بالصحة، ووفق ضوابط تحدّدها السلطة المختصة في الدولة التي تراعي فيها الحدّ الأدنى لسن الأطفال، وأوجبت ألا يتعارض عمل الأطفال مع التعليم الإلزامي، وألا يقل سن الالتحاق بالعمل الحدّ الأدنى لسن إكمال مرحلة التعليم الإلزامي.
فأين غزة من كلّ هذا؟ أليست جزءًا من فلسطين؟