النجاح الإخباري - المكان: الساحة الحمراء (موسكو)
المناسبة: الاحتفال بتأهل المنتخب الروسي إلى الدور ربع النهائي من منافسات كأس العالم للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
تأهل الروس جاء على حساب المنتخب الإسباني بعد الفوز عليه بركلات الترجيح 4-3 بعد انتهاء الوقت الأصلي والإضافي بالتعادل 1-1.
في تلك الليلة ربما لم أفكر في شيء ما سوى المفاجأة التي فجرها الروس على أرضية ملعب «لوجنيكي» في عاصمتهم، وكيف استطاعوا ترويض «الثيران الحمراء» حتى أخرجوهم من البطولة. كيف لهذا الفريق محليّ الصنع أن يقهر فريقاً بقيمة المنتخب الإسباني.
لكن في صبيحة اليوم التالي، وجدت نفسي أسأل بعض الأسئلة البديهية مثل؛ هل كان متوقعاً أن تفوز روسيا على إسبانيا ؟ قطعاً، لا. هل فوز روسيا على المنتخب الإسباني مفاجأة ؟ نعم. هل تحدث المفاجآت في كرة القدم؟ بالتأكيد.
إذاً أين المشكلة؟
المشكلة ليست في فوز روسيا بمباراة حاسمة ولا حتى التتويج ببطولة كأس العالم، المشكلة والتساؤلات تدور حول الأداء البدني «الخارق» الذي يقدمه لاعبو المنتخب الروسيّ منذ انطلاق البطولة وحتى الآن. فالمنتخب الذي لم يشارك في أية منافسات رسمية خلال عامي 2016 و2017 سوى بعض المباريات الودية لأنه لم يتأهل إلى بطولة «يورو 2016» ولم يشارك في التصفيات المؤهلة إلى كأس العالم، بحكم كونه منتخب البلد المستضيف للبطولة، هو أكثر المنتخبات ركضاً منذ انطلاق البطولة، حيث يركض لاعبو المنتخب الروسيّ قرابة 116 ألف و596 متراً (116,5 كيلو متر) في المباراة الواحدة، وهو أعلى رقم بين الفرق المشاركة في البطولة.
كما أن أكثر 3 لاعبين ركضاً في المونديال حتى اللحظة يلعبون ضمن صفوفه؛ حيث كان المركز الأول من نصيب نجم المنتخب الروسيّ الأول ألكساندر غولوفين، وفي المركز الثاني زميله ألكساندر ساميدوف، وفي المركز الثالث يوجد يوري غازينكسي.
الآن يصبح السؤال هو؛ هل هذا طبيعي؟ قطعاً، لا.
هنا يصبح التساؤل عن احتمالية تعاطي اللاعبين الروس للمنشطات، تساؤلاً مشروعاً.
بعد آخر يجب التنويه إليه، وهو أننا لا نتحدث عن دولة متقدمة تتمتع بمستوى عال من الشفافية وممارسات محترفة في محاربة الفساد، لكننا بصدد دولة تحتل المرتبة الـ 29 ضمن الدول الأكثر فساداً حول العالم طبقاً لمنظمة الشفافية الدولية.
كما أن جميع من يمثلون ذات الدولة منعوا من المشاركة في أولمبياد «ريو دي جانيرو 2016» بعد اكتشاف برنامج تعاطي منشطات يتم برعاية وحماية الدولة الروسية نفسها.
سيكون إذاً من السذاجة افتراض حسن النية والسذاجة عند قراءة إحصائيات ما بعد المباراة واكتشاف أن المنتخب الروسي صاحب معدل أعمار يقترب من 30 عاماً، استطاع الركض لمدة 120 دقيقة قاطعاً مسافة 146 كيلومتراً بينما لاعبو المنتخب الإسباني المحترفون في أكبر أندية العالم، والمتمرسون على اللعب في مستوى تنافسي أعلى بكثير من المستوى الذي يلعب به الروس، والمعتادون على أحمال بدنية ضخمة، ويبلغ معدل أعمارهم 27.8 للتشكيلة التي لعبت المباراة، قطعوا مسافة 137 كيلومتراً.
ما يثير الدهشة والريبة أيضاً هو أن المدافع الضخم سيرغي إيغانشيفتش قطع 12.3 كيلومتر ليصبح خامس أكثر لاعبي المنتخب الروسي ركضاً، علماً بأنه يبلغ من العمر 38 عاماً!
بينما كان أفضل لاعبي المنتخب الإسباني هو متوسط الميدان صاحب الـ 26 عاماً كوكي والذي قطع 14.7 كيلومتر، مع مراعاة أن لاعبي خط الوسط والأطراف هم الأكثر ركضاً دائماً خلال المباريات.
الرحلة إلى «يورو 2008»
ما يحدث الآن في موسكو يذكرنا بما حدث في كأس أوروبا 2008 ككل، وتحديداً المواجهة التي جمعت بين المنتخب الروسي ونظيره الهولندي والتي كانت بمثابة أفضل مباراة خاضها «الدب» الروسي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
فقد تغلب اللاعبون أصحاب القمصان البيض على نظرائهم البرتغاليين بنتيجة 3-1 في الوقت الإضافي للمباراة التي احتضنتها مدينة بازل السويسرية، ما ساهم في تأهلهم إلى الدور نصف النهائي.
خرج بعدها مدرب المنتخب الروسي لكرة القدم الهولنديّ غوس هيدينك، ليصرح بأنه لم ير شيئاً مماثلاً خلال مسيرته التدريبية. وهذا ما أكده حارس هولندا إدوين فان دير سار، الذي قال إن هيدينك جعل الروس يلعبون بشكل مماثل للعب الهولنديين. أما مدرب «الطواحين»، ماركو فان باستن، فقد بدا حزيناً ومتفاجئاً آنذاك، حيث صرح المدرب الخاسر أن فريقه كان لديه «أسبوع» كامل للتجهيز للمباراة وأنهم اعتقدوا أنهم سيكونون في وضعية أفضل من الروس إلا أنهم وجدوا الروس «أقوى» منهم بكثير.
وقد شهدت تلك الفترة تألقاً للكرة الروسية، حيث توج النجم الروسي أندري أرشافين رفقة زينيت سانت بطرسبرغ الروسيّ ببطولة كأس الاتحاد الأوروبي، وتوّج هو بجائزة أفضل لاعب خلال البطولة، وقد مثلت تلك الفترة بداية ما اعتقد أنها حقبة جديدة من تواجد الروس على خارطة كرة القدم الأوروبية، نظراً لامتلاكهم الموارد المالية الكافية لاستقدام اللاعبين والمدربين، كما كانوا يمتلكون جيلاً ذهبياً من اللاعبين.
لكن على الرغم من تلك البوادر الإيجابية للثورة الكروية الروسية، فإنها لم تستمر على أرض الواقع؛ فقد تراجع أداء المنتخب عقب نهاية كأس أوروبا 2008، واختفى أثره من الساحة الدولية تماماً وكأن تلك البطولة لم تكن!
وفي سيرته الذاتية بعنوان Fighting Spirit، عبر اللاعب فيرناندو ريكسين، الذي التحق بنادي زينيت قادماً من رينجرز الاسكتلندي في 2006، عن مدى اندهاشه من كمية الحقن والعقاقير والمنشطات التي يتناولها لاعبو النادي الروسي.
ويروي ريكسين، «الإبر والحقن في كل مكان تقريباً، لقد بدا وأن جميع اللاعبين معتادين على تعاطي المنشطات، لقد بدت غرف الملابس وكأنها مختبرات سرية». وقد زعم ريكسين أن هذه المنشطات لها تأثير «مدهش»؛ مفصلاً «ستمكنك من استعادة لياقتك البدنية بشكل سريع جداً، وستجعلك قادراً على اللعب لمدة 90 دقيقة أخرى في ذات اليوم».
صُدم ريكسين من التأثيرات القوية لتلك الحُقن على جسده ومردوده البدنيّ. لقد كانت تمنع تلك العقاقير والحقن الشعور بالإرهاق العضليّ، «فبعد تناولي لها، شعرت وأنني قد حصلت على دفعة من الطاقة تفوق الخيال. فعادةً، يستغرق الأمر مني 48 ساعة حتى أتعافى بشكل كامل بعد المباراة، ولكنني تمكنت الآن من استعادة لياقتي بشكل سريع، لدرجة أنني كنت على استعداد للعب 3 مباريات أخرى. كما شعرت كأن مباراتي الأخيرة التي شاركت فيها كانت قبل أسبوع، بينما لم يمر عليها في الواقع إلا بضعة أيام».
لا يعرف أحد ماهية تلك المواد، كما لم تُثبت أي من الفحوصات التي خضع لها لاعبو زينيت تعاطيهم للعقاقير المنشطة لتحسين الأداء. وفي هذه الحالة، إن الاحتمال البديل هو أن الفريق قد استفاد ببساطة من تدريبات هيدينك، لأنه لا يوجد أي دليل يؤكد أن المدرب أو فريقه يتعاطون تلك المنشطات.
لكنني ما زلت أتذكر تصريح غوس هيدينك بعد المباراة عندما قال, «عندما انهار الجميع وخارت قواهم على الملعب في الوقت الإضافي، كان أرشافين ما زال يقدم المزيد».
بعد انتهاء البطولة، تعاقد آرسنال الإنكليزي مع أرشافين ولم يتلقَ اللاعب لوماً على شيء بقدر انخفاض مستوى لياقته البدنية وقلة مجهوده على أرضية الميدان.
منشطات تحت رعاية الدولة
ثم جاءت النسخة الحالية من المونديال لتكون نقطة العودة بالنسبة للروس، الذين تمكنوا من الفوز على المنتخب السعودي بخماسية نظيفة، وأتبعوا هذا الانتصار العريض بفوز ثانٍ على المنتخب المصري 3ـ1، ليضمنوا بطاقة التأهل لدور 16 وثم يقصوا المنتخب الإسبانيّ في أكبر مفاجآت المونديال حتى الآن.
وهذه أول مرة يصل فيها المنتخب الروسي إلى الدور ربع النهائي في تاريخه، منذ تأسست روسيا الاتحادية عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في 1990.
لكن بعد مرور 10 سنوات على آخر ظهور مقنع للمنتخب الروسي، ومعرفة كل ما يتعلق بالرياضة الروسية وخباياها في السنوات الأخيرة، يطرح المجتمع الرياضي أسئلة هامة وخطيرة حول مشوار المنتخب الروسي في المونديال، على غرار السبب الذي يمكنهم من اللعب بهذا الشكل الجيد فنياً والقوي بدنياً بشكل مخيف. وفي خضم هذه التساؤلات، يرى العديدون أن هناك احتمالاً لاستفادة لاعبي المدرب ستانيسلاف تشيرتشيسوف من برنامج تعاطي المنشطات الذي تديره الدولة وتم على إثره استبعاد الروس من المشاركة في الألعاب الأولمبية الأخيرة.
لقد قام المدير السابق للمختبر الروسي للكشف عن المنشطات، غريغوري رودشينكوف، بالتبليغ عن المخالفات في مجال تعاطي المنشطات في الرياضة الروسية وسلط الضوء على مسألة التعاطي المكثف لـ «هرمون كورتيكوستيرويد» المنشط في عالم كرة القدم والذي يعمل على منع إجهاد العضلات، والذي تم تحت إشراف وزير الرياضة والشباب، ورئيس اتحاد كرة القدم والذي شغل منصب رئيس نادي سان بطرسبرغ سابقة فيتالي موتكو؛ الذي قد مُنع من المشاركة في الفعاليات الرياضية من قبل اللجنة الأولمبية الدولية بسبب قضية متعلقة بالمنشطات.
غريغوري رودشينكوف
خلال كلمة ألقاها في مؤتمر النزاهة بين الرياضة والسياسة الذي عقد في يونيو/حزيران 2018، أورد رودشينكوف أن موتكو، الذي لم يعترف قط بارتكابه تلك الجرائم الأخلاقية، طلب منه عدم المساس بلاعبي كرة القدم والتأكد من عدم معاقبة أي لاعب يتعاطى المنشطات.
يندرج مثل هذا الطلب ضمن رغبات موتكو المتكررة بالسرية التامة لضمان عدم إثارة أي ضجة إعلامية حول هذا الموضوع، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمنتخب الروسي لكرة القدم. وقد صرح غريغوري رودشينكوف، «خاطبني موتكو قائلاً أنه بصفته مديري وأهم رجل في كرة القدم الروسية، يتوجب علي أن لا أقترب من لاعبي كرة القدم، وشدد على ضرورة إبلاغه في حال واجهتُ أي مشكلة».
ولم يحدد رودشينكوف أسماء لاعبي المنتخب الروسي المشاركين في كأس أوروبا 2008، لكن الصحفي الاستقصائي في صحيفة The Mail on Sunday البريطانية نيك هاريس، قال إن هذه القائمة شملت جميع لاعبي المنتخب الروسي المشاركين في كأس العالم 2014 البالغ عددهم 23 لاعباً، بما في ذلك 3 لاعبين ساهموا في الفوز الشهير للمنتخب الروسي أمام نظيره الهولندي في موقعة الدور ربع النهائي من كأس أوروبا 2008.
ولقد تولى موتكو، الذي لطالما نفى ارتكابه لأي تجاوزات، منصب وزير الرياضة في مايو/أيار 2008، أي قبل شهر واحد من انطلاق كأس أوروبا 2008 التي تألق فيها منتخب بلاده. وقبل ذلك، سيطر موتكو على كرة القدم الروسية طيلة 3 سنوات، بعد أن أصبح رئيس الاتحاد الروسي لكرة القدم في أبريل/نيسان 2005.
ثم في العام التالي، قام موتكو بانتداب المدرب المخضرم غوس هيدينك لتدريب المنتخب الروسي، على حساب ديك أدفوكات وبول لوغوين، لإنقاذ كرة القدم الروسية من كابوس عدم التأهل لكأس العالم 2006.
وما زال ينكر الاتحاد الروسي لكرة القدم وجود برنامج منشطات ترعاه الدولة في كرة القدم. ولكن الأسئلة المطروحة حول الاستخدام المحتمل للمنشطات في كرة القدم الروسية قد وجهت لأطراف أخرى، وخاصة نادي زينيت سان بطرسبرغ الذي كان تحت إدارة موتكو، والذي قدم ثلاثة لاعبين بزغ نجمهم في يورو 2008، وهم أندريه أرشافين وألكسندر أنيوكوف وكونستانتين زيريانوف.
بالعودة إلى كأس العالم الحالية. قد رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» الكشف عن عدد اختبارات المنشطات التي أجرتها على لاعبي منتخب روسيا في كأس العالم بعد البداية المذهلة للفريق حتى الآن.
كما أن «فيفا» لم تكشف عما إذا كانت قد أجرت اختبارات للاعبين الروس غير الاختبارات الروتينية التي تتم بعد الانتهاء من المباراة.
وطالب الرئيس التنفيذي لوكالة مكافحة المنشطات بالولايات المتحدة، ترافيس تايغارت، بفعل العديد من الاختبارات للاعبين الروس ووضعهم تحت الضغط طوال وقت البطولة لحماية ثقة الجمهور في نزاهة كأس العالم. ويتوجب على الفيفا الضغط على الاتحاد الروسي لكرة القدم لضمان عدم تكرار فضيحة التعاطي الجماعي للمنشطات الرياضية والتي تم اكتشافها متأخراً بعد أن فاز الروس بالعديد من الميداليات الأولمبية.
وقال تايغارت، الرجل الذي استطاع اكتشاف استخدام الدراج العالمي لانس أرمسترونغ لمواد محظورة، وفي تصريحات لصحيفة التلغراف البريطانية قال إن القواعد الدولية تقول بأنه يجب التحقيق والبحث في التحسن المفاجئ في المستوى الرياضي، في أي رياضة كان. وبالتأكيد إن ما يقوم به اللاعبون الروس خلال نهائيات كأس العالم هو «طفرة استثنائية»، مثل ما حدث في بطولة «يورو 2008″، ويجب التحقيق فيها، كي لا تفقد كرة القدم مصداقيتها في حال ثبوت تعاطي اللاعبين الروس للمنشطات في المستقبل.
في نفس الوقت، أعلنت «فيفا» أن روسيا «واحدة من أكثر الفرق خضوعاً لاختبارات المنشطات قبل كأس العالم 2018» ، لكن المتحدث الرسمي باسمها قال، «عندما يتعلق الأمر باختبارات خلال المسابقة الجارية حالياً، يرجى تفهم أننا لا نستطيع التعليق».
وحذر تايغارت من أنه من «السذاجة» عدم الاعتقاد بأن روسيا ستحاول انتهاك قواعد مكافحة المنشطات خلال كأس العالم، وهي البطولة التي كان يجب تجريد روسيا من شرف استضافتها بعد أن تبين أنها نظمت برنامجاً ممنهجاً لتعاطي المنشطات أدى إلى إفساد أولمبياد لندن 2012 وأولمبياد سوتشي الشتوي 2014.
وفي حالة ثبوت أن لاعبي المنتخب الروسيّ قد تعاطوا المنشطات خلال بطولة كأس العالم الحالية، ستكون هذه «الفضيحة» بمثابة «القشة التي قصمت ظهر البعير» حيث سيفقد الاتحاد الدولي مصداقيته وستكون محل انتقادات عنيفة وشديدة. مع طرح أسئلة عن مدى جدوى المؤسسة القائمة على تنظيم كرة القدم حول العالم.
لكن حتى يثبت هذا، يتوجب على الجميع تحية المنتخب الروسيّ على ما يقدمه من أداء خلال نهائيات كأس العالم الجارية حالياً على أرضه وبين جمهوره.(عربي بوست)