إسراء بشارات - النجاح الإخباري - في زاوية منغلقة على نفسها في دوار الشهداء رجلٌ ثمانينيٌ طاعنٌ بالسن اشتعل رأسه شيباً، أتعبته مشاق الحياة لترميه على كرسي متحرك يقبع عليه خلف بسطة صغيرة مكونة من صندوق صغير فيه القليل من علب محارم وعلب للعلكة وأكياس للقمامة وما شابه ذلك، يخرج في الصباح الباكر ليعود متأخراً إلى منزله الواقع في حارة الغرب في البلدة القديمة وفي جيبه بضعة شواقل ليعتاش بها هو وزوجته .
في عام 1951م أجبره الوضع الاقتصادي السيئ لعائلته من ترك المدرسة وهو في الصف السادس، وبدأ بالبحث عن عمل يساعد به والده فالتحق بالتدريب في بلدية نابلس وهو في الثانية عشر من عمره، في قسم الصيانة ( أدوات صحية )، وبعد التدريب باشر فورا في العمل في البلدية .
وبعد أربعين عاماً من عمله في البلدية خرج عن التقاعد، وتقاضى مكافأة مالية عن ثمرة جهده وتعبه ، لكنها لاتغني ولا تسمن من جوع، ونظراً لمرضه ومرض زوجته وتدهور الوضع الاقتصادي للعائلة اضطر للعمل.
حكاية صبر واعتماد على الذات
تنهد الحاج زهير بقوة وأخذ نفساً عميقاً وبدأ حديثه :" لستُ معتاداً على المكوث بالبيت، بعد التقاعد بدأت أبحث عن عملٍ، قمت بشراء بضعٍ من علب المحارم ومحفظة لبطاقة الهوية و علب علكة وما شابه ذلك وفتحت بسطة صغيرة على الدوار، إلا أن القدر كان مُصرّاً على معاداتي دائماً، ففي يوم من الأيام وأنا عائدٌ إلى البيت صدمتني سيارة، لكن لم يحصل لي شيء والحمد لله إلا أن تأثير الضربة بدأ يظهر تدريجياً على عيناي التي خفت نورهما لأول مره حتى أصبتُ بعمى بعد عامين، ومع ذلك أكملت العمل على (البسطة) كان أولاد الحارة يوصلونني إلى الدوار صباحاُ ويعيدونني في المساء، وقبل سنتين عندما كنتُ خارجاً من بيتي تعرضت لحادث سير آخر، إذ كنتُ أسيرُ أمام بيتي في شارعِ ضيقٍ جداً لا يتسعُ سوى لسيارةٍ واحدةٍ، لأصبح بعدها على ما أنا عليه الآن."
جلّس غانم جسده بصعوبة على كرسيه المتحرك وأكمل حديثة:" أستيقظ في الصباح الباكر واصحي زوجتي لمساعدتي على ارتداء ملابسي وتناول الإفطار، من ثم يأتي شاب ليصطحبني لمنطقة الدوار ويعيني على وضع البسطة أمامي، فالكثير من الناس يشفقون على حالتي ويضعون المال بيدي دون الشراء مني وفي بعض الأيام يقومون الأولاد بسرقة ما في الوعاء .
تجدر الإشارة أن مدينة نابلس باتت تشهد في الآونة الأخيرة انتشار لبسطات صغيرة من الأحذية وبعض الأكلات البسيطة كالذرة والترمس والفواكه والخضار مغموسة بعبق الماضي والحاضر فأصبحت هذه البسطات الوجهة المفضلة للوافدين للمدينة.
حكاية بسطة غانم واحدة من بين الكثير من حكايات البسطات في مدينة نابلس ، فالوضع الاقتصادي المتردي في المدينة دفع الكثير من المواطنين لفتح مشروع صغير (البسطات)، لتدر دخلاً يومياً على أسرهم حتى ولو كان بسيطا،وليواجهوا قساوة الفقر وأوجاعه وحتى لا يمدوا يداهم للمحسنين من حولهم.