الاء عامر - النجاح الإخباري -
على بعدِ أمتارٍ من مدخل حارة ( تل كريم ) في قلبِ مدينة نابلس، أحد أهم الأبواب الرئيسة للسوق القديم، يوجد خان يعرف بالسوقِ العتم وهو أحدُ أعرقِ أسواقِ فلسطين، يأتي صوت نايٍ مع غناءْ ربما خرج من حناجر انشطرت من قوقعة قديمة لتستقر بين أيدينا دون عناء.
مشيا على الأقدامِ مسافةِ أمتارٍ قليلة، كشكٌ صغير لا يتجاوز طوله الثلاثة أمتار بعرضِ مترٍ واحدٍ فقطْ، تدور عجلة الكاسيت وكأننا في عصر السبعينات الجميل، "الجراموفون" ذهبي اللونِ خلاب، لكن الفتنة الأكبر يحدثها صوت عبد الوهاب الذي يعلو كلما دار القرص أكثر، وفي الجانب الأيسر رفوفٌ خشبية، مصفوفٌ عليها كاسيتاتٌ تفوق المئات لم يظهر لون الرفوف، فقد نال الغبار منها دهرا.
شادي الحاج داوود في العقد الرابع من عمره، الذي رفض بدايةً ذكر إسمه لأسبابٍ خاصة، هو محب للموسيقى وعازف للأورغ، في البداية كان هاويا لجمعِ الكاسيتاتَ وبيعها وهذا ما جعله يدخرُ مبلغا منذ طفولته ليشتري منها مجموعة كاسيتات ليفتتح في العام 1996 محلا لتجارتها.
داوود لم يبع الكاسيتات لسد رمق أسرته فحسب، لكن تجارتها شكلت الركيزة الأساسية في حياته، يبدأ داوود حديثه: "في الصباح أخرج و اجلس أمام المحل الصغير، أستمع لفيروز وأغني، يمضي النهار فأعود إلى بيتي لأتابع هوايتي الخاصة، المتمثلة بأرشفة الأشرطة التي تصلني من الخارج بقيمة سبعة شواقل للكاسيت الفارغ وسبعون شيقل للكاسيت الأصلي فأقوم بنسخها على عدة أقراص قد تصل إلى 200 قرص بسعر عشرة شواقل للكاسيت الواحد"، يتابع داوود "في غرفة صغيرة داخل بيتي تحتوي على كاسيتات فارغة وأجهزة النسج وطوابع خاصة لملصقات الكاسيت أجلس فيها يوميا ما يقارب الثلاث ساعات أقوم بإعداد الكاسيتات من نسخ وتنقية للصوت ونسخ لملصق الكاسيت ثم تجميعها وأخيرا أرشفتها".
"ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، بوجه عابس قال داوود "في العام 1996 وفي شهر فبراير بالتحديد افتتحت هذا الكشك الصغير لأقوم ببيع كاسيتات الأغاني والأناشيد والقرآن وحتى الأفلام والرسوم الكرتونية"، يواصل حديثه "في التسعينات أبيع في الأسبوع الواحد 300 كاسيت، وأستورد المزيد منها لكثرة المشتريات، لكن منذ 9 أعوام نادرا ما يأت أحد ليشتريها، حيث أنني في اليوم أبيع واحد وربما يمر أسبوعا كاملا لا زبون يرتاد المحل"، يتابع داوود "قديما كانت أغاني الزجل والحداء والأغاني الوطنية تشهد الحضور الأكبر، وهناك العديد من الأغاني التي تعتبر كنزا قديما لكني الآن لا أتذكرها فلا يوجد أحد من الزبائن يذكرني بها".
بوجه مبتسم وصوت منخفض يتحدث داوود" أنا لم أخسر شيء فلدي محل لبيع ألعاب الأطفال، وهذا المحل هو هواية وتسلية فإذا مر يوم دون بيع الكاسيتات أجلس لأسمع الموسيقى وأحتسي القهوة في هذا الكشك ".
أسباب ونتيجة واحدة
أما عن سبب قلة المرتادين لهذه المحلات يجيبني داوود: " ظهور الإنترنت والمواقع الالكترونية مثل اليوتيوب وساوند كلاود وأنغامي وغيرها قلل من شأن الكاسيت، فلا حاجة لأن يأتي الزبون وينفق عشرات الشواقل مقابل اقتناء أغنية، فمن المؤكد أن جهازه الذكي يحوي على برامج لسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام لكن الزبون لا يعلم بأن ما يحصل عليه من اليوتيوب مباشرة هو ذا جودة ونقاء صوت قليل، على النقيض من الكاسيتات المسجلة".
على دوار ثابت ثابت في مدينة طولكرم يجلس أنور عبوشي 27 عاما على أحد الأرصفة أمام محل كبير لبيع الكاسيتات، يرفع رأسه قائلا:" الزبائن يأتون بشكل مستمر يطلبون مني تحويل الاغاني من الكاسيت لقرص أو وحدة ذاكرة (الفلاشة)، لأن المعظم أستبدل المسجل والجراموفون بجهاز حاسوب أو جهاز ذكي (هاتف) يسمعون من خلاله ما طاب لهم من الأغاني"، ويؤكد: "التطور الذي يشهده العالم في الآونة الأخيرة جعل الكثير من الناس يستغني عن الكاسيت وحتى الأقراص في ظل مواجهة الإنترنت لها".
داخل مسرح كلية الفنون في جامعة النجاح الوطنية أفصح الدكتور رامي عرفات المسؤول مباشرة عن عملية التوزيع الموسيقي بأن الكاسيت أصبح (موضة قديمة) أي ندر استخدامه إلا لمن يفتقد آلية العمل الحاسوبي والأجهزة الذكية أمثال كبار السن، والسبب لذلك التطور المتسارع وبرامج التسجيل والمونتاج والمكسرات وغيرها، لذلك غابت الحاجة لوجود الشريط والكاسيت كما أن الجودة في الكاسيتات مقارنة في برامج التسجيل والمونتاج الحديثة باتت لا تذكر.
لم يصبح الكاسيت هدية يتبادلها العاشقون والأزواج، ولم يبق هدية متداولة في أغلب المناسبات، هذا ما شاركتنا فيه السيدة ياسمين بني عودة43 عاما وأضافت عودة: " الكاسيت لم يبق على الرفوف فقط، بل عاث الأطفال بشرائطه السوداء وجعلوها اللعبة المثيرة".
شركات ماستر كاسيت، وسوبر كاسيت، وليزر كاسيت على إختلاف أنواعها سورية وأردنية المصدر بدأت بالإندثار، كما حل بالشركات الفلسطينية الموزعة كمؤسسة ( ليزر ) بمدينة الخليل، مسح الغبار أسمه، فاصبحت ديكور توضع في الزوايا تفصل بين الزمن الماضي والحاضر.