ايناس أحمد - النجاح الإخباري - شعرٌ بنيّ يتدلّى نحو الكتفين، ملابس تبدو كأنّها من دور العرض الباريسية، أناقة وجمال، عقل وفكر، ولسانُ ينطق بأجمل الكلام، أما العينان فلا بصر فيهما ولا لمعان.
كفيفة ٌهي، ولدت بكامل الحواسّ، ما كان شيءٌ يفرّقها، فكلّ ما عندها يجري طبيعيًّا كأيّ انسان، ولدت فريال ذات السبع والأربعين عامًا في الجليل شمال فلسطين، تزوجت من مقدسي، وأنجبت طفليْن، دانا وأمير، وتعمل حاليًّا بمركزٍ لدعم ذوي الإعاقة، ودمجهم بالمجتمع.
ما يميّز فريال عن غيرها من الكفيفين أنّها ولدت ترى كلّ ما يدور حولها، لكنها كانت تعاني من ضعف بصري منذ الولادة، وتزايد الضعف إلى أن أصيبت بزيادة ضغط السوائل بالعين، الأمر الذي انتهى بها كفيفة لا ترى.
تزايد الضعف مرة تلو الأخرى، وزادت حالتها البصرية سوءًا، فقدت البصر تحديدًا في المرحلة الثانوية من الدراسة، اجتازت امتحان الثانوية العامة العبري "البجروت" كونها تسكن في الجليل بنجاح، مرحلة جديدة تنتظرها وحياة جامعية عليها اجتيازها في مدينة القدس، حياة جديدة لا ترى منها سوى ما تلمسه.
ما زالت فريال عباس تذكر اليوم الأول الذي اتكأت فيه على العصا، تقول: "أذكر أن أول يوم بالجامعة كان أول يوم أمسك به العصا، وأصبحتْ لا تفارقني أينما ذهبت، وأعطتني دعمًا نفسيًّا واستقلالية في الحركة."
تضيف، "العصا سمحت للآخرين بمساعدتي، كانت تعلمهم أنّي كفيفة ولا أرى، أصبحت دليلي بالتعرف على أشخاص جدد."
اجتازت فريال مرحلة البكالوريوس بنجاح وتزوجت، وخلال تقديمها لشهادة الماجستير كانت حاملًا بطفلها أمير، واجتازت كذلك الماجستير وبعده دبلوم التربية من الجامعة العبرية في القدس، وحصلت على تخصص بالصعوبات ودمج الصعوبات الخاصة وماجستير بالتربية الخاصة الذي تعمل به حاليًّا، ودبلوم آخر بالقيادة التربوية، ودبلوم ثالث بالتربية الاجتماعية الجنسية وإرشاد المجموعات، عدا عن شهادة تدريب المعلمين.
تقول فريال "كان يتحتم عليَّ ككفيفة تسجيل المحاضرات وإعادة كتابتها بلغة البريل، كما توجبَّ عليَّ إيجاد شخص يساعدني بالأبحاث الجامعية، يذهب معي للمكتبة ويبحث عن الكتب ويقرأها لي."
وتضيف:" تعلّمت لغة الإصغاء ولغة الجسد لأنّ الحياة الجامعية لا تستوعب إنسانًا عاجزًا، تلقّيتُ الانتقادات بسبب عجزي، وكان هناك من لم يتقبلني."
أنيقة هي وتظهر كما الحسناوات، فلا يهمّ المجتمع إلا المظاهر كما تقول، وإن سر ابتسامتها هو أناقتها التي هي جزء من شخصيتها، تهتمّ بملابسها جدًّا لذلك يجب أن تكون حسب دور الأزياء وصرخات الموضة، فلا تشتري شيئًا إلا بعد أنْ يصفه لها بائع الملابس.
ترتدي ملابسها وتضع المساحيق التجميلية، تستقلّ عصاها ويميشيان معًا حتى محطة الحافلات، تصعد الحافلة متجهةً لعملها بمركزٍ لدعم ذوي الإعاقة، ودمج ذوي الصعوبات الخاصة بالمجتمع.
تقول فريال "لدي نقص بحاسة، وإعاقتي ميزتني، وأنا لا أطلب من أحد التأقلم معي، بل يتوجب عليّ أنا أنْ أتأقلم مع الآخرين وأفرض نفسي على المجتمع، لأن المجتمع لا يقبل مَنْ لا يقبل نفسه أوّلًا".
وتضيف "المجتمع غير مقصر بحق الكفيف، لكن الكفيف مقصر بحق نفسه، اقبل نفسك كي يتقبلك المجتمع".
هي أم ناجحة رغم عجزها عن الرؤية، تزوجت فريال وهي كفيفة وكذلك أنجبت طفليها وهي كفيفة، الكبرى دانا وقاربت أنْ تبلغ ال (17 عامًا)، أما أمير الأصغر يبلغ من العمر (15 عامًا)، تدرس أطفالها من خلال تنزيل المنهج الخاص بهم على جهاز الحاسوب وتطبعه بلغة البريل، تستخدم الحاسوب أفضل بمئة مرة من إنسان نظره معافى، تملك ناطق صوت وبريل على جهاز الحاسوب الخاص بها.
تقول فريال عباس "أتخيّل لو أنّي لم أكُن كفيفة، ربما كنت لم أكمل تعليمي أو تعلمت وتوظفت بأيّ وظيفة، لكن تأثرت حياتي ايجابيًّا بما أَصأبني، وأنا محظوظة كل الحظ بهذا الفقدان، لأنّ فقدان نظري كان جزءًا من تكوين شخصيتي وصقلها وساعدني في الحياة، سمح لي أن أتفرغ لنفسي حتى يقبلني المجتمع" .
عادة ما يكون الفقدان بشتى أنواعه بمثابة استئصال عضو من الجسد بلا تخدير، لكن أن تحرف البوصلة وتتجه بها نحو تحقيق الأهداف والوصول للطموح هو النجاح بأمّ عينه، كفيفة تحدت عجزها وانتصرت على مجتمعها، وجعلت منه انطلاقة لبناء شخصية لا ينساها كلّ من قابلها، هي الأنثى بإصرارها والأم في تحملها، والشُجاعة في تحدّيها