ايناس أحمد - النجاح الإخباري - رأسٌ غزاه الشيب، ويد كستها تجاعيد الزمن، زرقة العيون سماءُ بحرٍ انعكس عليها، يسند رأسه على عكازته مستذكرًا حين كان لصنعته وزنًا وقيمة، فمن صبي بالصنعة لصاحب الصنعة، هي نقلة لم تكن سهلة.
فمن سوق الدباغة لسوق العطارين ومن ثمّ إالى غزة وصلت بضاعته، هو سكافي صنع الأحذية وعلّم صناعتها لأبناءه ولكل من يريد تعلمها.
سكافي معمر في القدس
ولد الحاج "خيري أبورميلة" بالقدس وعاش فيها، شارف عمره على أن ينهي التسعين عامًا، متزوج وله خمسة أولاد وثلاث بنات، ولديه من الأحفاد ما يفوق الخمسين، ذاكرته تكاد تتفوق على ذاكرة عالم تاريخ وآثار، عمل في صناعة الأحذية منذ نعومة أظافره، فقبل بلوغه العشرين عامًا كان معلم حرفة وصاحب صنعة يعلّمها لمن يرغب.
السكافي في النكبة
كان "خيري" يعمل اسكافيًا في سوق الدباغة، يصنع ما يقارب (150- 200)زوجًا من الأحذية ويصدرها كل يوم جمعة من نهاية الأسبوع إلى غزة، يقول الحاج خيري:" كنت أحضر المواد الخام اللازمة لصناعة الأحذية من عَمان، وبقيت على هذا الحال لحين اندلاع نكبة فلسطين".
احترف خيري مهنته قبل ثماني سنوات من النكبة، بعد أن كان صبي يتعلمها من شيخ الكار الذي أرسله اليه والده، تعلم المهنة واتقنها إلى أن أصبح صاحبها.
حلّت النكبة واحتلت اسرائيل القسم الغربي من مدينة القدس، وكان الحاج خيري آنذاك يقطن في الجزء الشرقي من المدينة، أغلقت الأبواب والأسواق ولم يعد أحد في عمله بمدينة القدس، ساءت الحياة الاقتصادية بسبب إغلاق الأبواب واندلاع الحرب ما بين الجيش العربي القادم من الأردن ومصر والعراق وبين القوّات الإسرائيلية الاحتلالية.
من سكافي لبائع سجائر
عند حدوث نكبة فلسطين ظلّ صانعو الأحذية في مدينة القدس بلا عمل حتى عام (1951)، توقف حال الأساكفة في ذآك الوقت، وأتجهت تجارتهم نحو بيع الدخان والسجائر التي كانوا يحضرونها من شرق الأردن ويبيعونها للجيش العربي والثوار في جبهات القتال.
يقول الحاج خيري:" الحرب قامت وإسرائيل تضرب المدينة براجمات الصواريخ، أذكر أني في ليلة من ليالي رمضان قمت بعد القنابل الإسرائيلة التي تجاوزت الـ (1200) قنبلة، في هذا الضرب من يستطيع العمل والبيع؟".
السكافي ما بعد النكبة
عاد صانعو الأحذية في تلك الحقبة للعمل مجددًا في سوقي الدباغة وسوق العطارين اللذان كانا مخصصيْن لهم للصناعة والبيع، كانوا يحضرون المواد التي تلزمهم من عمان، وعادت أمورهم إلى مجراها لكن!!
الخوف يملئ قلوب الفلسطينين خاصة بعد أن كانت المستعمرات البريطانية قد انتشرت على طول الطريق الواصل ما بين القدس وباقي المدن والقرى لتحمي المستوطنين والقوّات الإسرائيلية، وكانت آنذاك تستخدم الشباب الفلسطيني كدروع بشرية لتحميها وإسرائيل من أي هجوم من الجيوش العربية المقاتلة في فلسطين.
سنوات مرّت والصعوبات التي يواجهها صانعو الأحذية بالقدس بإزدياد، صار من الصعب إرسال البضائع إلى غزة بسبب إغلاق الطريق المؤدي إليها.
يقول الحاج خيري:"أصبحنا نرسل بضاعتنا إلى نابلس والخليل ورام الله وعمان، أصبح عددنا يفوق المئة منتشرين من بداية سوق العطارين حتى نهايته وكذلك سوق الدباغة".
خمسون عامًا
تطورت الصنعة وتطور زمانها، فبعد أن كانت تتم الحياكة يدويًّا أصبحت الماكنات تغزو الأسواق، و الجلود بأنواعها وعلى اختلاف جودتها، تطور العمل و زاد الطلب و الربح.
يقول الحاج خير:" كانت أجرتي خمس ليرات شهريًّا، واستمرعملي اسكافيًّا خمسين عامًا، حتى أصبحت أجرتي (60) دينارًا في الأسبوع،ولم يجبرني على ترك العمل كاسكافي إلا تدهور صحتي و تعبي جسديًا".
ويضيف مفتخرًا، العمل في هذا المجال كان في وقته أفضل بكثير من اليوم في ظل غزو المنتج الصيني السوق المحلي، يقول خيري:" كان العمل على زماني بإتقان، كنا نملك الماكينات الإيطالية، وبكل سوق الدباغة والعطارين كان خمس أو ست ماكينات.
اندثرت المهنة
في ظل التطور التكنولوجي والإستيراد العالمي، لم يعد للإسكافيين دور أو لمهنتهم أثر، اندثر الاسكافيون واندثرت حرفتهم، فالذي كان يأخذ إنجازه معهم يوم وليلة تنتجه الماكينة بثلاث دقائق ونصف، و مع زيادة ثقافة الفاشن ومواكبتها أصبح من العصي على رجل عاصر النكبة والنكسة أن يصمم حذاء كحذاء أوبرا وينفري أو حذاء انجلينا جولي.
يقول الحاج خيري:" إذا البلاد راحت الاسكافيين بدهم يضلوا".
هي غصة في القلب لتاريخ اندثر، وحرقة في العينين على مكانة كانت تعانق الغيوم في يوم مضى، هذا هو حال كل من واكب زمانات مختلفة وعاش مخضرمًا، كل شيءٍ اذا ما علا دنا خاصة في عصر أسميناه عصر السرعة والتكنولوجيا.