د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - كرست عوامل مختلفة امتدت عبر مراحل الحكم العربي والاسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي. في هذه السلسلة أحاول البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الاسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم.
وقد انتهيت في المقال السابق الى ان الفساد، بأنواعه المختلفة، والذي يشكل أساسا راسخا لدى النظم الاستبدادية، سيحول دون التقدم المعرفي والنهضة العلمية. كما ذكرت ان معاني الفساد تتسع لتشمل جميع مناحي الحياة وجميع مرافق الدولة وسلوك المجتمع، إلا أن نتائجها واحدة وحتمية، وهي انهيار التقدم الحضاري وتخلف الدولة. ولعل أحد معاني الفساد تكمن في تخلي المجتمع عن محاسبة أفكاره، مقابل الاستسلام للنرجسية الفكرية او النرجسية العقلية للفرد أو المجتمع.
إن النرجسية الفكرية، والتي تعني اعلاء الذات فوق مستوى النقد، قد جعلتنا نعتقد بصفاء أفكارنا وتقدمها على غيرنا مما منع أي دراسة تأتي بخلاف الموروث الثقافي، أو السياسي، أو الديني، أو الاجتماعي أو حتى التاريخي. تلك النرجسية ترفض قبول فكرة نقد الذات وبالتالي تجد السلطة السياسية الوطنية -كمعاكس للسلطة الدينية – تتبنى وتعزز فكرة الزعيم الخالد، والقائد بحجم الوطن، الذي لا يمكن له أن يخطئ، بل تعتبر أي نقد له بمثابة انتقاص من عظمة هذا القائد وذاك الزعيم. وقد ساعد في بناء هذا الفكر النرجسي وجود العقل النقلي للعالم الإسلامي عبر مختلف العصور حتى أصبح التيار الفكري المناقض لتلك السلطة هو حصراً التيار الديني الذي بدوره يحيط نفسه بذات الفكر النرجسي بحيث يعتبر أنه وحده على الحق، وأن من انضم لهذا التيار هم فقط أهل الحق وفوق مستوى النقد. وبالتالي لا تسمح اي من السلطتين، سواء سلطة الحكم او سلطة الدين، لا تسمح بانتقاد رموزها، لأنها تعتبر ان لها خصوصية، ذات طابع وطني أو لاهوتي، لا تقبل التحليل تمنع من وضعها في ميزان التجربة البشرية المجردة والتي يمكن نقدها سلبا وإيجابًا. ولم تقف حدود النرجسية الفكرية على نظرتنا التاريخية، بل امتدت أيضا لتشمل المستقبل. فالنظرة النرجسية للمستقبل جعلتنا نخض لنشوة الاعتقاد بان العالم كله من حولها يخشانا، وان المستقبل سيكون لنا، لأننا نحن الافضل، وسيكون لنا الغلبة على الامم، فهذا وعد الله لنا، وهذا ما نستحق لأننا المختارون.
حين قيام الدول العربية بإنشاء سلطتها المباشرة، على أعقاب فلول الاستعمار، لم تلتفت تلك النظم الى تطوير المنهج المعرفي، بل كان جل اهتمامها بسط مركزيتها، وبالتالي عمدت الى إعادة الموروثات الثقافية، وتغليب العقل النقلي دون النقدي. وحين حاولت بعض تلك الأنظمة الانقلاب على الماضي وإنشاء حركة وطنية عروبية، تحت شعار الثورة على التخلف ونبذ الاستعمار، لم تستخدم تلك الأنظمة أي من وسائل نقل المعرفة وتطوير العقل النقدي، بل استغلت شعاراتها كغطاء لبسط المزيد من مركزيتها، مع إبقاء العقل النقلي لإرضاء عموم المجتمع. ولم يكن البديل المقابل، لتلك الانظمة، سوى حركات أيديولوجية تمسكت بخطاب العودة الى الماضي باعتباره وسيلتها الوحيدة لنقل العالم العربي من الانحدار، رغم افتقار تلك الوسيلة لأبسط اسس النقل الحديث. في المحصلة، لم يكن الصراع بين الأنظمة العربية والحركات الأيديولوجية الدينية، وما زال كذلك، على أسس النهضة المعرفية ودعم حريات الفرد، أو احترام حقوقه، أو تكريس المواطنة والعدالة، بل هو صراع سياسي على الحكم في إطاره الشكلي، واتفاق مشترك بينهما، من حيث الجوهر، على رفض المنهج النقدي المعرفي، وإبقاء العقلية النقلية كونها العقلية الأكثر دعما لشرعنة وجود كليهما.
إن النرجسية الفكرية، والتي ترفض أي نقد للذات، قد استمدت شرعيتها بالإضافة للعامل الديني، الى عوامل أخرى متعلقة بالثقافة الأبوية والذكورية للمجتمع العربي. تلك السلطة الأبوية، والتي نمت في الدول الإسلامية منذ العصر العباسي وازدادت تحكما في مرحلة الدولة العثمانية، واستمرت في العصر الحديث، تلك السلطة التي تفرض على الأبناء الطاعة، وعلى الرعية السمع، دون تحديد مسوغات النقاش ووسائل الاعتراض. كما أن حصر مفهوم ولاة الامر بشخص الحاكم دون نظم الدولة الدستورية، ونقل الفقهاء، كالشوكاني، لإجماع الامة على وجوب طاعة الولي الحاكم ولو جار وبغى، أسس للفكر الدكتاتوري وشرعن قتل العقل او الفكر الناقد والمخالف.
وهكذا تم إنتاج أجيال متتابعة جبلت على العقل النقلي، وتخشى من كل تفكير مخالف قد يغضب الولاة. وامتدت تلك السلطة الأبوية في المجتمع لتشمل التعليم والمعلم، حتى أصبحت مقولة أن ’لحوم العلماء مسمومة‘ في منزلة الآية القرآنية، مما أدى الى إلغاء فكرة العقل النقدي، وقضي على أهم أسس التقدم العلمي الذي يعتمد على نقد فكر الغير من أجل البناء عليه وإضافة فكر جديد أعز جودة وأكثر تنويرا. فالعقل النقدي الذي حاربته السلطة الاستبدادية، لا يعني الانتقاص من الغير، ولا يمكن أن يؤدي الى إنكار فضل الآخرين، أو التقليل من احترامهم، بل هو ملكة الانتقال من مرحلة جامدة الى مرحلة أخرى متحركة بحيث تسمح لمزيد من الإبداع والتقدم.
لقد أدى رفض العالم الإسلامي والعربي للعقل النقدي الذي أطلقه يوما ابن رشد، وسكوتهم عن إحراق كتبه، الى جمود المعرفة لدينا وتأخرنا بين ركب الأمم. وحين تجرأ بعض المفكرين أو الكتاب عبر التاريخ، وخصوصا في العصر الحديث، بدراسة التجربة الوطنية أو الإسلامية كتجربة بشرية يمكن نقدها، تم قتل اصحابها بدافع التكفير والتعدي على الله، او بدافع التخوين ونشر الفتنة لصالح جهات غير وطنية. لم يكن إحراق كتب إبن رشد، مجرد نار أصابت أورقا وجلودا، بل كانت مَحرَقة لم ننتبه لها حتى وصلت لذاتنا وإنسانيتنا. إن سكوتنا عن تلك المحرقة جعل نارها تمتد حتى وصلت الى عقولنا، فتعايشنا مع تكفير، وتخوين، وقتل كل مخالف. لم يكن الغرب في وضع أفضل حالا مما عليه أوضاع الأمة العربية والإسلامية اليوم، لكن بداية التغيير، كما نادى بها فولتير، بدأت بفرض حق الفرد المطلق في التعبير، ومنع الاستبداد بكل أشكاله. هذه الدعوة لا تتأتى سوى بفرضها من قبل الشعوب على الدولة، خصوصا عبر إرادة فئة المتعلمين والمثقفين فيها كونها ضمير الأمة الدائم. فتوافق ضمير الأمة حول مفاهيم وحدود المسائل الجوهرية، والتي من أهمها حرية التعبير والمساواة والعدالة والمواطنة، سيفرض على نظم الحكم إنهاء كل أشكال الاستبداد والجمود العقلي.
لقد كنا وما زلنا أمام خيارين: هدم العقلية النقلية، أو إحراق الذات. فلهيب النار التي تشتعل تحت أقدام تقدمنا تستمد وقودها من فكرنا المنغلق وتعصبنا لنرجسيتنا الفكرية. لكن الخيار كان ومازال مفتوحا أمامنا لإخماد الحريق، ومن ثم السير نحو رحاب التقدم والمعرفة، فهل يملك ضمير الأمة الإرادة الحقيقية لفعل ذلك؟