نابلس - د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - كرست عوامل مختلفة أمتدت عبر مراحل الحكم العربي والاسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي للعالم العربي. في هذه السلسلة أحوال البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الاسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم
في المقال السابق ذكرنا أن اهم الاسس التي إنطلق منها الغرب في معركة الحداثة العلمية والانتاج المعرفي هو حرية الفرد والتعبير، والتي سمحت بدورها لبروز وتشكل ما يعرف بـ "نظرية المعرفة"، والتي كان لتطور مفهومها الدور الاساس في النقلة الفكرية والمعرفية للدول الغربية. وقد اسهمت نظرية المعرفة بخلق تلك الحالة الفكرية والنقدية الموضوعية المجرده، مما اتاح لهم مراجعة جميع الافكار والعلوم التي وصلتهم عبر موروثاتهم النقلية، أو التي تمكنوا من كشف أسرارها عبر مختبراتهم العلمية، كما مكنتهم من التوسع البحثي في مختلف المعارف ومناحي الحياة الدينية، والتاريخية، والعلمية والفلسفية والطبيعيىة.
ليس من السهولة بمكان ان يقتصر شرح "نظرية المعرفة" او الوقوف على تفصيلاتها في مقال أو حتى مجموعة مقالات، إلا انه يمكن القول، اختصارا، بأن نظرية المعرفة تعبر عن ذلك المفهوم الذي ينطوي على نظرة شاملة كلية للوجود والحياة والكون والإنسان والطبيعة من حوله، من خلال مهنج بحثي معرفي متميز عن غيره. وللتبسيط اكثير يمكن تعريف نظرية المعرفة بكونها تبحث إجابة السؤال: "كيف نعرف أننا نعرف"! فمضمون هذا السؤال يتسع ليشمل كل ما يتحصله العقل والادراك الإنساني من علوم ومعلومة، من مثل كيف نعرف أن معرفتنا الدينية صحيحة؟ وكيف نعرف أن اكتشفاتنا العلمية دقيقة؟ وكيف نعرف أن قراءتنا للتاريخ سليمة؟ وكيف نعرف أن تفسيراتنا للنصوص التي بين أيدينا سليمة؟ وهكذا. وقد أشغلت فلسفة نظرية المعرفة عقول الفلاسفة والعلماء وجعلتهم يغوصون في أعماق العقل للبحث عن جوهر الفكر وأسس البحث السليم، وخاضوا من اجل الإجابة على ذلك جولات وصولات في مختلف الافكار والعلوم.
ففي بداية ما سمي بعصر التنوير كان السؤال الفلسفي عن مفهوم ومعنى الوجود، وعن معنى الإله وحقيقة الدين، وموقف العلم من الدين، يشتعل بقوة بين علماء الغرب ومفكريهم، خصوصا بعد أن أخذت الإكتشافات العلمية تقوض الكثير من الثوابت الفكرية والدينية لديهم، وتعارض ما كان يعد من المسلمات الفلسفية والعقلية، من مثل كروية الأرض، ومتى وكيف بدأ الكون، ونظرية تطور المخلوقات والانسان، وغيرها من المسائل. وبالتالي كان من المهم لديهم الوقوف على أسس وآليات المنهج البحثي والمعرفي السليم للإجابة عن تلك التساؤلات. في رحلة التصادم المعرفي تلك، إنقسم المفكرين والباحثين إلى فريقين رئيسين، الفريق الاول إعتبر أن المعرفة هي فقط تلك الاشياء التي يمكن أن تكون خاضعة للتجربة المادية، وبالتالي لا تعتبر الغيبيات، بما فيها الوحي، مصدرا للمعرفة العلمية لكونها لا تخضع للتجربة ولا يمكن الوقوف على صحتها بشكل محسوس. أما الفريق الثاني فقد قدم الوحي على غيره، ورفض الاعتراف بالعنصر المادي دون الروحي، بل اعتبر ان المعرفة تقوم على مركزية الوحي والتعاليم الدينية، وذلك لان الله هو الحقيقة الثابتة، وما يصدر عنه من وحي او تعاليم تشكل المصدر الثابت للحقيقة المطلقة في هذا الكون، أما العلوم التجريبة فنتائجها قابلة للتغير والتبديل الدائم والمستمر. لكن مع قدوم عصر النهضة أخذ الموقف يجد منعطفا ثالثا للمنهج المعرفي، حيث تاسس منهج جديد لفصل المعرفة الدينية عن المعرفة العلمية، وبالتالي اخذ العلم التجريبي مسارا تطوريا مستقلا عن مسار الدين، دون أن يصطدم به أو يتصادم معه. وهكذا إنشغل العلماء في أبحاثهم العلمية وإبتكارتهم المعرفية، دون تقييدها بنصوص دينية أو تاريخية، وبقي السؤال الكبير حول سبب الوجود، ومن أوجدنا من إختصاص الفلاسفة والمتدينون، يشغل إهتمامتهم ويثير نقاشاتهم، بينما إنشغل علماء الطبيعة بدراسة الكون وفق اسس مادية وتجريبية بحته.
لم يكن الفصل بين العلوم الطبيعية والعلوم العقلة فصلا مطلقا، بل تداخل في كثير من الاحيان الجدل حول أثر الاكتشافات المادية على المسلمات العقلية والفلسفة المنطقية. لكن ذلك التصادم بقي خافتا الى أن جاء الفيلسوف ديفيد هيوم، وكتابه الشهير "بحث في الطبيعة الإنسانية " وتبعه كانط في كتابه "نقد العقل الخالص" ليشكل كتابيهما ثورة فكرية قلبت موازين الفلسفة العلمية ونظرية المعرفة رأسا على عقب. ففي كتابه المذكور هدم هيوم، ما كان يعتبر حقيقية عقلية حول مبدأ السببية، حيث إعتبر أن العلاقة السببية -بين السبب والمسبب- ما هي إلا عادة سيكولوجية ذهنية وليس ضرورة واقعية. جاءت أقوال هيوم تلك لتشكل زلزالا فكريا وانقلابا منطقيا على جميع من سبقه من فلاسفة ومفكرين، وأدت أفكاره الى التشكيك بمصادر المعرفة التي اعتمدها كلا من الفلاسفة المؤمنين والعلماء الماديين.
فالفريق الاول كان يعتمد على قاعدة السببية لاثبات صحة الايمان بوجود خالق، لكون السببية تفيد عقلا بأن لكل سبب مسبب، ولكل حادث محدث، وبالتالي اعتمد الفلاسفة المؤمنين على تلك القاعدة للقول بان الكون حادث، ولابد للحادث من مسبب، وهو الله؛ كما أن السلسلة السببية تعني أن الله هو نهاية الاسباب لانه المحرك لجميع الاسباب. وبالتالي فان قيام هيوم بهدم حقيقة السببية تجعل من الحجة المنطقية التي اعتمدها الفلاسفة السابقون غير ثابته. ولم يقف هدم السببية عند حدود الفلسفة العقلية، بل شملت أيضا كل ما ينتجه الانسان من اكتشافات علمية أو نتائج رياضية التي بنيت على أسس الاستقراء، وبالتالي ستجعل فلسفة هيوم جميع الاكتشافات والنتائج العلمية غير صحيحة أو على الأقل مشكوك في صحتها. وبعبارة اخرى فان هيوم اعتبر انه لا يمكن تعميم الحكم على باقي العناصر أو الإفراد إن لم يتم فحص إلا بعضها، كما أنه لا يصح تعميم الحكم على المستقبل إذا كان فحصنا تعلق فقط بالحاضر او الماضي، أي أن ما حصل في الماضي لا يفيد بالضروة أنه سيحصل دائما في المستقبل. فمثلا يقول هيوم أن تمدد المعدن بالحرارة لا يعني أن كل المعادن ستتمدد بالحرارة، إلا إذا تم إخضاع جميع المعادن التي في الكون لهذه التجربة، وأيدت كل النتائج هذا الادعاء. بهذا المفهوم للسببية من قبل هيوم ستكون أغلب العلوم والمعارفة التي توصل لها العلم التجربي غير حقيقية، كما ان الاستقراء الذي يعتمده العلماء في بناء المعرفة سيكون بلا اساس ثابت.
أثار كتاب هيوم ثورة فكرية وحرك عقول الفلاسفة والعلماء لمناقشة افكاره، وانبرى الكثير منهم للرد على هيوم، لكن الذي تمكن من حسم الأمر هو الفيلسوف كال بوبر الذي أسس المنهج الحديث لفلسفة العلوم ونظرية المعرفة، حيث وضع نظرية أو مبدأ التكذيب للفرضيات والنظريات العلمية. فالعلم أو الإكتشاف العلمي وفق بوبر يبدأ بفرضية قد تكون بدايتها فلسفية، ثم تخضع تلك الفرضية لعدد من التجارب والاختبارات حتى يتم الحكم على سلامتها؛ فان كانت النتائج لصالح الفرضية فإنها تتحول الى نظرية علمية، تبقى صحيحة حتى يتم تكذيبها عبر اكتشافات جديدة أكثر وضوحا وأقوى دليلا مما سبق. وبالتالي اعتبر بوبر أن الحد الفاصل بين العلوم والميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) هو مبدأ التكذيب. فكل ما يقبل التكذيب يدخل في إطار العلوم، وكل ما لا يقبل التكذيب يدخل ضمن الميتافيزيقيا. فمثلا، وجود الجن والملائكة هي من مسائل الايمان الخارجة عن إطار العلم، كونها لا تخضع للتجربة العلمية ولا يمكن إثباتها أو نفيها، أما تمدد المعادن أو أن الكون بدأ بالإنفجار العظيم، فتلك النظريات قد تم الاستدلال عليها بطرق حسابية وتحليلية، حتى أصبحت نظرية علمية، وهي تبقى نظرية علمية مسلم بها بين العلماء حتى يتم تكذيبها وفق قواعد البحث العلمي السليم، أو تقديم نظرية أفضل وأصح عبر الوسائل العلمية المعروفة.
ويرى بوبر ان المعرفة العلمية تنمو عبر قيامنا بالفحص النقدي، بمعنى ان الاستمرار في اختبار النظريات، والتحقق منها سيقودنا إلى تجارب وملاحظات جديدة لم نكن نتصورها، وبالتالي لا يوجد حد نهائيا للمعرفة لان جهل الانسان ايضا لا يوجد له حد نهائي، وبالتالي تستمر عملية المعرفة إلى ما لا نهاية. من هنا فان بوبر لا يعترف بوجود حقائق علمية صحيحة بالمطلق، بل يوجد ادلة ترجيحية لسلامة النظرية العلمية، وتبقى النظرية صحيحة ما لم تكذِّبها بعض الاختبارات، حينئذ يتم استبدالها بنظرية أخرى بعد أن تتجاوز كل الاختبارات السابقة. بذلك ميز بوبر بين العلم والاعتقاد؛ فكل ما يمكن تكذيبه يعتبر في مجال العلم أما ما لايمكن تكذيبه فهو من باب الايمان والاعتقاد الخاص بالإنسان، وليس للعلم أن يتدخل في نفيه أو إثباته. وهكذا يكون العلم أو "نظرية المعرفة" وفق فلسفة بوبر هي قابليته المستمرة للمواجهة مع الواقع والوقائع، وقابليته المستمرة للنقد والمراجعة وإكتشاف الأخطاء، وبالتالي استمرارية التصويب حتى نتمكن من الإقتراب أكثر من الحقيقة وسلامة المعرفة.
من هنا أخذت المجلات العلمية ذات السمعة المعرفية العالمية بوضع اسس قبول البحث العلمي وفق ذلك المعيار الذي وضعه بوبر. فالظوراهر الكونية والطبيعة لا تقبل تفسيرها إلا وفق فرضيات تم التحقق من نتائجها عبر طرق الرصد والتحليل العلمي او المخبري حتى شكلت نظرية علمية محددة. فنشوء الكون وتطور الانسان، لا يعتمد على مقدمات او نصوص غيبية أو سماوية، بل تعتمد على علم الاحفورات والجيانت والفلك والرياضيات وهكذا. والنظرية العلمية تبقى سليمة او صحيحة، حتى يتم تطويرها او نفيها بنفس الوسائل العلمية المعتمدة على قابلية الاختبار وإمكانية التكذيب. استطاع بوبر أن يفصل الصراع الفلسفي بين المعرفة الدينية (او الميتافيزيقية) والمعرفة العلمية، واستمرت فلسفته تمثل إلى يومنا الحالي المحطة الاساسية للعلم والمعرفة، حتى قيل إن "العلم ببساطة ليس شيئا أكثر من منهجه، وليس منهجه شيئا أكثر مما قاله بوبر". وقد أكد علماء كثر، ممن حصلوا على جوائز علمية عالمية منها نوبل، على فضل فلسفة بوبر في إسهاماتهم العلمية.
في المحصلة، فتحت نظرية المعرفة الباب، في الدول المتقدمة، للتحرر الفكري من أي قيود سابقة أو موروثات جامدة، كما جعلت كل ما يتوصل له الانسان خاضع للنقد والتطوير. بينما وصلت نظرية المعرفة إلى صدارة الفكر الفلسفي والمعرفي في العصر الحديث، إلا ان تلك النظرية قد غيبت تماما عن مناهج وعقول الشعوب العربية ودولها. فنظرية المعرفة المبنية على العقلية النقدية، ترعب الأنظمة الشمولية كونها تزرع الوعي لدى شعوبها بأن المعلومة لا تكون بمجرد تلقيها "معرفة" حتى يتم الكشف عن مصادرها، والتحق من صدقها، ومن ثم إختبار قوة صلابتها أمام الفكر النقدي والفرضيات المختلفة. هذه الوسيلة النقدية للمعلومات، ستكشف الستار عن النظم القمعية التي تستخدم الإعلام للترويج لبطولاتها الوهمية، وستعري الاحزاب التي تستغني بالشعارات الوطنية عن تقديم برامج واقعية، كما انها ستزلزل الاعتقادات الدينية المبنية على العواطف الروحانية وليس الادلة العقلية، وستزعج المدارس والكليات المركزية لأنها ستكشف حقيقة قدراتها التعليمية. لهذا تتوافق كل الاطياف السابقة على ضرورة إضعاف دراسة الفلسفة ووسائل البحث العلمي السليم، بل تتلاحم فيما بينها لطرد نظرية المعرفة عن أبوابها، مما أدى الى ضعف الانتاج المعرفي للدول العربية، سوى نقل أقوال السابقين وتجميع أراء اللاحقين.
ما سبق يفتح النقاش عن موقف الفكر الديني من نظرية المعرفة، وكيف أثر موقفه من النهضة الفكرية والمعرفية للدول العربية، وهو ما سنبحثه في المقال القادم.