د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - كرست عوامل مختلفة أمتدت عبر مراحل الحكم العربي والاسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي. في هذه السلسلة أحاول البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الاسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم.
في المقال السابق أشرت إلى أثر الحملة الفرنسية على إكتشاف العرب للهوة العلمية والتقنية بينهم وبين الغرب، مما إستدعاهم لإطلاق بعثات علمية تتلمس أسباب التقدم في الغرب. لمست تلك البعثات كيف أدى الاهتمام بالإنسان وتحرير العقل في أوروبا إلى تطور العلوم لديهم حتى فاض منهجهم النقدي بثروة علمية وصناعية فاجأت العالم، وخصوصا الدولة العثمانية، حين حطت على أراضيها محتلا وفاتحا بعد أن كانت مترقبا ومدافعا. عندما عادت البعثات الى وطنها العربي، نقلوا ما شاهدوه وتعلموه من تجارب وخبرات، وبدأت تطالبت بضرورة النهوض بالمجتمع والدولة عبر إصلاحات حقيقية شاملة في نظم التعليم والمنهج البحثي والمعرفي، وإطلاق الحريات، وفصل السلطات، وتطوير الهيكل الإداري والسياسي والإقتصادي للدولة، كان من أبرزهم رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك.
لم تلقى دعوات الاصلاح تلك، قبول حقيقي من المجتمع كونها قَدِمت إليهم من الغرب ودول الكفر، بينما سمحت السلطة الحاكمة في الدول العربية التي كانت تتمتع بشبه إستقلال ذاتي عن الدولة العثمانية، كمصر، من إحداث تغييرات محدودة في نظم التعليم والإدارة. لكنها خشيت من فتح المجال كاملاً للإصلاح الفكري المتعلق بالمنهج النقدي وفلسفة المعرفة، وإطلاق الحريات وإحترام الكرامة الفردية، لما قد يرتبه ذلك من إضعاف لقبضتها الإستبدادية. وبالتالي لم تسمح الدولة لمشروع رفاعة الطهطاوي النهضوي، أو غيره، بإحداث تغيير جذري وحقيقي للمنظومة التعليمية أو المنهج المعرفي النقدي، سوى بعض المظاهر الشكلية من مثل إنشاء الدوائر الإدارية، وإفتتاح الكليات، وإستقدام الترجمات. في المقابل لم تكن الدول العربية الخاضعة للسيطرة المباشرة من الدولة العثمانية كالشام، أفضل حالا من مصر، بل حاربت الدولة العثمانية أصحاب دعوات الإصلاح وإطلاق الحريات، وعملت على إسكاتهم أو تهجيرهم، كما حدث مع الكواكبي ورفيق العظم.
إكتسبت الدولة العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر لقب رجل أوروبا المريض، حيث تم تكبيدها بالهزائم المتتالية من الدول الأوروبية التي أفقدتها الكثير من أراضيها حتى ذهبت مهابتها ومكانتها بين دول العالم. وأخذت الدول الأوروبية تخطط فيما بينها لإقتسام أملاك إرث الدولة العثمانية الممتد بين ثلاث قارات. في تلك المرحلة من تاريخ العرب، كان إهتمام الدولة العثمانية مُنصَب فقط على تقوية جيشها والقبض بيد من حديد على البلاد التي تخضع لسيطرتها، بينما ساد في المجتمع العربي التمسك بالمنهج النقلي التقليدي، كما إنتشرت الخرافات والشعوذة. وأسهم تسلط الدولة العثمانية على رقاب العرب، خصوصا بعد صعود الحركات القومية في تركيا، وإجبار الشباب العربي على القتال نيابة عنهم، ووصول الجهل العلمي بينهم الى إرذله، وإنتشار الفقر والجوع والامراض، إلى بروز حركات عربية دعت للإنفكاك التام عن سلطة وقهر الدولة العثمانية وإعادت إمساك العرب بزمام أمورهم. وبدأ الفكر العربي يشهد دعوات إلى إنشاء خلافة عربية برداء جديد، وقابلتها حركات قومية دعت الى التمسك بالمفهوم الوطني والقومي لدولها. وفي الجزيرة العربية نشأت حركة دينية مختلفة إهتمت بإحياء الفقه السلفي ومحاربة الشعائر الصوفية ومنع زيارت القبور والأولياء، عرفت بالحركة الوهابية نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حتى قامت هذه الحركة الدينية بالتحالف مع الحركة السياسية لآل سعود، لإنشاء دولة تكون السلطة الدينية فيها من نصيب الأولى، ويكون زمام الحكم في يد الثانية، وهكذا تم تأسيس المملكة السعودية، التي استمرت بدعم الفكر السلفي النقلي ونشره بين الأقطار.
بينما كانت الدولة العثمانية تلفظ أنفاسها الاخيرة، وفي ظل الإستبداد والإنقسام الفكري العربي الذي إستمر عمومه متمسكا بجر الفكر التقليدي النقلي خلف عباءته وتقديس الموروثات، كان الإستعمار قد أحاط بكافة أقطار الوطن العربي، وتمكن من جميع أراضيهم، واستولى على كل مقدراتهم. دخل العالم العربي في حقبة تاريخية مختلفة، كان من أبرزها إنتشار المذاهب القومية وحركات التحرر الوطنية. أعادت صدمة إحتلال الغرب لجميع الأراضي العربية، وإعلان الدولة العثمانية نهاية الخلافة، التساؤل الذي بدأ في فترة محمد علي باشا عن الأسباب التي أوصلتهم إلى قعر الهاوية العلمية والحضارية، لكنهم إنقسموا في الإجابة إلى قسمين رئيسين، أحدهما دعا إلى نقل وتقليد مراحل التطور الغربي حتى نصل الى ما وصلوا إليه من تقدم؛ والقسم الآخر أراد إسترجاع الماضي عبر إطلاق شعار الإسلام هو الحل، معتبرا العودة للتاريخ الإسلامي والالتزام بالموروث هو الطريق الوحيد للإنتصار على الغرب. تفرع عن هاتين المدرستين مذاهب مختلفة ما بين متشدد ووسطي في كلا القسمين. فالقسم الأول وجد في أتباعه من دعا إلى الأخذ فقط بالأسباب العلمية، أو المنهج العلمي للغرب دون غيرها، وبين من طالب بالأخذ الكامل والحرفي للتجربة الغربية وتقليد جميع مناط الحياة للغرب بما يشمل النمط الاجتماعي والأخلاقي لديها. في المقابل تنوعت افكار القسم المطالب بالعودة للخلافة الإسلامية ما بين الدعوة إلى التطبيق الحرفي لمرحلة الرسول والسير على نهج أصحابه من بعده، نزولا إلى التمسك فقط بالأخذ بالنظام الديني والسياسي للخلافة الإسلامية كإطار عام مع فتح المجال للإجتهاد في المسائل الأخرى، وإستمر هذا الإنقسام الفكري إلى يومنا الحالي.
في المحصلة، لم تتمكن البلاد العربية من إستلهام طاقاتها في بناء فكر عربي جديد، حر ومستقل، يمكنها من النهوض والسير في ركاب العلم والإبداع، ولم تستفد، بعد تلاقيها مع الإستعمار الغربي، سوى من بعض مظاهر التغيير الشكلي من لباس ومأكل وفن وغيرها من المظاهر المادية الخارجية. وهكذا أعاد العالم العربي تكرار رفض الفرصة الإصلاحية، وأحيا مرة أخرى تجربته في رفض العقل النقد الذي يمكنها من التقدم العلمي، بينما تمسك بالمنهج النقلي الذي أبقى لديه حالة الجمود الفكري، وإنعدام الانتاج العلمي الممتد من العصر العباسي الثالث حتى يومنا الراهن. إن إستفادة المجتمع العربي من بعض المظاهر المادية التي إصطحبها الإستعمار الغربي، من مثل تعمير الشوارع وأيصال الكهرباء، وتأثره ببعض المظاهر الثقافية الشكلية والتعليمية، لم يكن من باب فهم التجربة المعرفية التي عاشها الغرب حتى وصلت بهم إلى التقدم العلمي، بل كان ومازال من باب التقليد العابر الذي جاء بسبب الإنبهار السطحي بالثقافة الغربية، أو بسبب فرض المحتل بعض مظاهر ثقافته بالقوة على المجتمعات العربية.
في المقابل، توسع الشعور الوطني العام بضرورة مقاومة الاحتلال، ليس فقط لانه غاصب وجب رده، بل ايضا لكونه سبب تخلف الأمة وإستنزاف خيراتها، ومانع أساسي لتقدمها ونهضتها، وبالتالي دخل العالم العربي في مرحلة التحرر ومقاومة الهيمنة الغربية حتى بدأت الدول العربية تنال إستقلالها، مما فتح الباب لمرحلة فكرية جديدة، كما سنعرض لها في المقال القادم.