د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - كرست عوامل مختلفة أمتدت عبر مراحل الحكم العربي والاسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي. في هذه السلسلة أحاول البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الاسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم.
أشرت في المقال التمهيدي السابق لأثر الفكر الفلسفي في صعود أو هبوط علم المعرفة بين الأمم، وسنبحث في هذا المقال مراحل التحول في وسائل الفكر وطرق المعرفة، من خلال مراجعة نقدية سريعة للتاريخ العربي والاسلامي منذ نشأته حتى يومنا الحاضر.
كان العرب في عصر الجاهلية تجمعهم غلبت النقل على العقل، حيث كانوا يحفظون الشعر ويتناقلونه بينهم، ويعلقون أشهرها على أستار الكعبة. وإهتم العرب بحفظ أسماء القبائل وتسلسل الأنساب وتتبع شجرتها، حتى أنهم كانوا يحفظون أسماء الخيل وسلالتها. في المقابل سمح لهم الشعر وإنتشاره بينهم القدرة على إطلاق الخيال الفني حتى بلغ عنان السماء، ومكنهم من السباحة في فضاء التصور والبلاغة، وبالتالي كان لهم ذوق وملكة رفيعة. إلا أن تلك القدرات كانت محاطة بتراث ثقافي وموروثات وتقاليد قبلية، منعتهم من بناء نهج نقدي سليم، ومراجعة فكرية للذات، إلا ما ندر. وبالتالي لم تتساءل العرب كثيراً عن عقلانية عبادتها الوثنية، أو سلامة موروثاتها الإجتماعية والتي جعلت بعضهم يدس طفلته في التراب، أو أوصلتهم إلى حروب إمتدت لعشرات السنين على أسخف الأسباب كما حدث في حرب داحس والغبراء التي وقعت بسبب رهان على سباق فرسين.
في ظل تلك الأجواء التي سادها الجمود الفكري والتعصب للموروث، بزغ فكر جديد، من قلب غار حراء، حاملا رسالته للإنسان أن "إقرأ"، لتشكل تلك الرسالة منطلق الدعوة المحمدية بأهمية تحرير العقل من الموروثات وضرورة نقد الذات بشكل يتيح للإنسان تنقية فكره من جميع الشوائب العالقة فيه. هكذا جاء الإسلام وبهذا نزلت آيات القران الكريم، تقرع رؤوس الناس وتهز عقولهم عبر تحطيم المنهج النقلي السائد بينهم، وحثهم على إعمال الفكر النقدي بشكل دائم ومستمر. نلمس ذلك جليا في تعامل القرآن مع مفهوم الأخلاق ومعاني الخير والشر، فقد كان لقوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) منطقا خاصا في تأسيس الفكر النقدي وتحطيم أصنام المنهج النقلي المرتكز على التمسك بالموروث. بالتالي لم يضع القرآن محدادت أو مقيدات لتبيان معنى الفاحشة أو التقوى، بل تركها مفتوحة لما أوزعه الله في قلوب وعقول البشر من تصور وتطور لمعاني حسن الخُلق أو سوء التصرف. وهكذا تكررت الآيات دون تقييد تلك المصطلحات بتعريفات جامدة أو محدادت ثابتة، مما يفرض على الناس إستخدام المنهج النقدي من أجل الوصول للصواب، وبالتالي تبقى تلك المعاني تتدرج إرتقاءً مع مدى السمو الفكري والإنساني للبشرية، بحيث تلامس واقعهم في كل عصر وزمان. إنتشر الاسلام بعد أن أعمل العقل وحارب منهج النقل، ولكن مع مرور الزمن أصبح الناس يستغنوا عن المنهج النقدي الذي وضعه القرآن، ويلتزمون بحرفية النصوص وتقديس الموروثات، وربط كل خير أو شر بسلوك السابقين وأقوالهم. فأنهى أصحاب التقليد تطور مفهوم الإنسانية ورقي الأخلاق، ليعودوا تدريجيا إلى نهج الأباء في نقل الموروث والتمسك به باعتباره مرجعا أساسا، بل محددا جازما للفكر والعقل.
بعد وفاة رسول الله، تفطن أبو بكر وعمر لمقصد القرآن الأساسي في إعمال العقل النقدي، وناصرهما جُلّ الصحابة على ذلك الفهم، وبالتالي لم تقيدهم النصوص في إستنباط أحكام وتشريعات تتواءم مع الضرورات السياسية، أو المستجدات الإجتماعية والأخلاقية لعصرهم. ولو فعل اليوم أبو بكر وعمر أي من تلك الاجتهادات، لاتهموا بتعطيل شرع الله، والحكم بغير ما أنزل الله، ولصرخت منابر التقليد بأن أبا بكر وعمر يفصلان الدين عن الحياة ويخالفون شرع الله. لكن جيلا تربى على المنهج العقلي النقدي، وقاده شيخيان جُمع لهما العبقرية السياسية والعدالة الإجتماعية، إستطاع أن يستخلصا مقاصد الشرع وفق معطيات العصر والمنطق والاخلاق، وبما هو مصلحة للناس والدولة، دون تقييد ذلك بحرفية النصوص التي جاءات على سبيل النموذج وليس التقييد. وهكذا تمكنت الدولة الناشئة من التقدم والانطلاق، وإستطاعت أن تحتضن تحت رايتها التنوع الثقافي والاجتماعي لمختلف الأمم والحضارات.
بعد مرحلة عمر، إنشغل العرب في إقتتال وفتن بينهم مما أدى بطبيعة الحال إلى الجمود العقلي، وإنشغال الناس عن طلب العلم وتطور مناهجه. فالقلق، والحروب والاضطرابات، لا تسمح في الغالب بانطلاق الفكر، والسبح في بحر العلوم إلا ما كان إستثناءً. لكن حين إستقر الأمر بيد الدولة الأموية، بعد أن تمكن عبد الملك من إخماد الثورة التي أطلقها إبن الزبير، سمح ذاك الإستقرار بالإلتفات نحو العلوم، وبدأت أولى بذور تدوين تاريخ السيرة والاخبار. كما أدى توسع العالم الاسلامي بإتجاه الغرب والشمال، إلى نشوء أول مراحل الترجمة ونقل العلوم، وهي ما سميت بحركة التعريب. أخذت الدولة الأموية أيضا بتأسيس القضاء وتعيين الأئمة في المساجد، وإنشاء المدارس أو حلقات العلم والفتوى. لكن كان زمام التعيين والعطاء بيد الدولة، مما جعل إمتداد وتفوق بعض المدارس الفكرية على غيرها، متعلق بموقف الخليفة منها ومقدار دعم الدولة لها.
كانت تلك المرحلة مقدمة لعصر الدولة العباسية الأول، والذي إزدهر فيه علم التدوين للسيرة النبوية، ووضع أصول علم الاحاديث، وترجمة أحداث التاريخ في مراحل العصر الراشدي والأموي وحتى العباسي. وقد ساهم إتساع دخول مختلف الشعوب والأمم إلى داخل حدود الدولة الاسلامية في ترجمة ونقل أخبار وموروثات تلك الأمم المتننوعة، مما عزز دور الترجمة، والاطلاع على العلوم والمعارف السابقة ومراجعتها ثم البناء عليها. في المقابل أدى نقل تاريخ وآثار الثقافات الاخرى واساطيرهم الى تسرب بعض خرافاتهم إلى الكتب الاسلامية، أو نسبتها إلى الرسول وأصحابه، كما يلاحظ ذلك جليا في بعض كتب التفسير والسيرة.
لم تخلو الدولة العباسية، عبر جميع عصورها، من فترات مد وجزر في الإنفتاح الفكري وتقدم العلوم المختلفة. وإتسم العصر العباسي الأول في معظمه بفترة المد تلك، حيث سُمح بحرية الفكر والكتابة وتنوع المدارس الفلسفية، ودعم أصحاب العلم وعقولهم. وهكذا شهدت الدولة العباسية في تلك الفترة فيضان من الكتب والعلوم والإختراعات، حتى صارت مركز الحضارة الفكرية والعلمية للعالم بأسره. وسمح الانفتاح الفكري حينها، بأن تصبح بغداد والبصرة وغيرهما من أقطار الدولة مقصدا للعلماء وطلابه، يطوف حولها الافكار المتنوعة، ويحط في رحاها آخر ما توصلت إليه البشرية من اختراعات وعلوم.
كانت الفترة التي شهدها العصر العباسي الأول في مجملها، الأكثر إنتاجا للعالم العربي والإسلامي من حيث المعرفة والعلوم. كما سمحت تلك الفترة بتواجد مختلف الآراء وتلاقي جميع المتناقضات الفكرية. كان المنهج العقلي النقدي متصدرا بين العلماء ومصدر إلهام لجميع المفكرين، فكان الدهريون يقارعون أهل الإيمان، والفلاسفة يحاجون أهل الأصول، وشعراء التصوف يردون على شعراء المجون، وأخذت مدارس الفرق الاسلامية ومذاهبها تتشكل وتتطور. وهكذا عُرفت تلك الفترة بكونها أبهر العصور التي شهدها العالم العربي الإسلامي، حتى ساهمت في إمداد الغرب بأسس المعرفة التي بنى عليها نهضته.
لكن رغم ذلك الإنفتاح والمد الفكري، كانت هناك فترات جزرٍ إتسمت بقهر المفكرين، وقتل المعارضين، وإضطهاد أراء المخالفين. كما أنه من اللافت أن رغم إتساع الحركة العلمية والنقلية لمعارف الحضارات السابقة لم يكن للمسلمين أو الفقهاء أي كتابات خاصة بتطوير نظام الحكم والسياسة، أو نقد المنهج الاستبدادي في الوصول للحكم، رغم توفر كثير من كتب الاغريق والرومان التي وضعت أسس متقدمة في السياسة والديمقراطية ونظم الحكم العادلة. حتى في المحاولة النادرة التي قام بها إبن المقفع حين نشر رسالته عن ضرورة فصل السلطات ووضع دستور لتحديد الحقوق والحريات والمواطنة، تم قتله بعد أن أذاقته الدولة أشد الوان العذاب.
مع دخول العالم العربي والإسلامي مرحلة الحكم العباسي الثانية، كانت المدراس الفقهية البارزة قد تشكلت، وكان الصراع بين فرق الكلام ومعارضيهم قد إشتد، مما ساهم في إنحراف سهم التقدم العلمي، وشكّل بداية مختلفة للنهج المعرفي في العالم الاسلامي. فهل تدخلت الدولة في حسم ذلك الصراع، وكيف كان أثر المدارس الفقهية التي قد تشكلت على مجرايات تلك المرحلة وما بعدها؟ هذا ما سنتطرق إليه في المقال القادم.