نابلس - د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - يَذكر بعض المفكرين أن الأندلس سقطت يوم أُحرقت كتب إبن رشد، وأن النهضة الأوربية بدأت يوم أن وصلتها أفكاره. وربما ليس تطرفا فكريا لو إدعينا أن آخر الأحصنة العلمية للحضارة العربية والإسلامية سقطت بسقوط بغداد وإحراق كتب العلماء خصوصا أفكار إبن رشد. فقبل إنتقال فلسفة إبن رشد إليها، كانت أوروبا قد أَغلقت أمامها أبواب الفلسفة العقلية، ومنهج المعرفة العلمي، وجعلت موروثاتها الثقافية والدينية والفكرية من المسائل التي لا يجوز الاقتراب منها أو نقدها. ثم بوصول أفكار إبن رشد إلى أوروبا إنقسم الناس إلى فريقين، فريق شيّطن كل ما وردها من أفكار لإبن رشد، وإعتبر أن الأخذ عنه تقليد أعمى للأجنبي الكافر، وهذا الفريق تزعمته رجال الدين وأتباعمهم، وفريق آخر تزعمه الفلاسفة والعلماء الذين إحتضنوا فكر إبن رشد وأسسوا من خلاله لمنهجية جديدة في البحث والمعرفة.
الذي أسهم في نشوب ذلك الخلاف الحاد بين الفريقين، لا يقف عند نشر فكر إبن رشد، بل كان قد سبق ذلك وجود حركات تنويرية وخروج بعض الأصوات المطالبة بالإنتقال من الفكر التقليدي والتلقيني المحدود، إلى سماء حرية الفكر والنقد العقلي. لكن هذه الأصوات كانت فردية وخافته أمام سلطة الكنيسة وموروثات المجتمع الدينية المهيمنة، حتى جاء إبن رشد وترجمة أقواله حول العقل النقدي ونظرية المعرفة، والتي إعتبر فيها إبن رشد أن العلم معرفة مستقلة قائمة بذاتها، وأن الوحي معرفة أخرى مختلفة ومستقلة، وفي حال وجود تناقض بينهما فان العقل يقدم على الوحي، حتى أن إبن رشد إعتبر أن التجارة بالدين هي التجارة الرائدة في المجتمعات التي يسودها الجهل. هذا الفكر الصادم في عصره، والذي رفضه المسلمون حينها، أقنع الكثير من الأوروبين وحثهم على فتح وسائل جديدة للمعرفة، تطورت بأشكالها المختلفة حتى وصلت إلى ما عليه اليوم. فهو يدعوا إلى التفرقة وعدم إخضاع العلم أو الفكر لأي محددادت نقلية سواء كانت إجتماعية أو دينية أو ثقافية أو غيرها.
ولعل من بين أهم تلك الوسائل التي إعتمدها الأوربيون في استلهاماتهم "الرُشدية" هو منهج البحث الحر، والعقل النقدي ’المنهج النقدي‘ الذي تزعمه ديكارت، ثم قلبَ معاييره ’ديفيد هيوم‘ و’إيمانويل كآنط‘، بعد وضعهم نظريات جديده للمعرفة حتى أصبح لديهم عصرا مختلفا سمي عصر التنوير. وبإعتماد الغرب لنظرية المعرفة، التي تبحث عن إجابة سؤال: "كيف نعلم أنّنا نعلم"، عبر وضع قواعد عقلية نقدية لمصادر وحدود وطبيعة المعلومة، تمكنوا من تطيور منهاج التفكير النقدي المعتمدة على التحليل العقلاني والموضوعي لجميع انواع العلوم التي إزدهرت في عصر التنوير وعصر النهضة، سواء العلوم الإنسانية الفلسفية أو الطبيعية التحليلية. فهذه المناهج المختلفة للتفكير العلمي وطرق البحث، والتي إعتمدت في عصر التنوير أو النهضة، سمحت لهم بمراجعة موروثاتهم الفكرية ونقد الذات، ثم البناء على الجوانب الايجابية فيها والمنسجم مع العقل وتطور العصر، فتمكنوا من تطيور العلوم الانسانية العقلية مثل القانون والفلسفة والتاريخ والآداب، كما فتح المجال للإبداع العلمي التجريبي في أشكاله المختلفة من مثل الطب والفيزياء والكيمياء وغيرها.
في المقابل أظلم العالم الاسلامي بإحراق مكتبة إبن رشد، وصعود أفكار محاربة الفلسفة والعلوم العقلية، وهكذا أخذ العقل النقدي بالانكماش حتى سيطر العقل النقلي تماما على العالم الاسلامي، مستعينا بتلك السيطرة على عوامل أخرى، جعلت مذاهب معينة ذات الطابع النقلي التاريخي، تطغى على الفرق التي كانت تسعى لإعمال العقل وإستخدام المنهج النقدي والمعرفي، تحت تبريرات مختلفة من بينها تصاعد الاعتقاد بأن العلوم الدينية هي أفضل العلوم، وإنتشار فكرة الفرقة الناجية التي هي وحدها على الحق.
وقد كرست العوامل السياسية والتاريخية والديني والاجتماعية للعرب والمسلمين، مع وجود نظم سلطة مركزية أمتدت عبر مراحل الحكم العربي إلى أن وصلت لشكل الدولة الحديثة، الأسس والعوامل الجوهرية في تثبيت العقل النقلي التقليدي، دون الفكر النقدي المعرفي. فالعقلية النقلية التي رسخت في عموم الدول العربية الآن تخدم سلطة الحكم الاستبدادية، بنفس القدر الذي تُشرعِن للفكر الديني الدعوي والسياسي خطابه الشعوبي وفقره المعرفي. من هنا لم يعد غريبا على الباحثين العرب، حين يقدمون أي فكر جديد ومخالف للموروث، أن يتصدى لمسامعهم عبارة "وهل تعتقد نفسك أفضل من العلماء السابقين!؟ هل تظن أنك تنبهت لما لم يتنبه له العلماء على مر العصور السابقة!؟" ثم تطورت ههذه الإستنكارات حتى أضيف إليها " هذه أفكار أجنبية، أجندات خارجية، ثقافة غير وطنية!" من هنا لابد لنا أن نثير التساؤل عن الاسباب التي جعلتنا ننتهج العقل النقلي لكن لماذا ننتهج هذا العقل النقلي الذي أوصلنا إلى الإنغلاق والجمود العلمي حتى صرنا نجلس في مؤخرة عربة الإنتاج العلمي، وخارج أسوار التقدم الحضاري؟ ولماذا وصل عالمنا العربي إلى هذا الإنغلاق والجمود العلمي والمعرفي حتى صرنا نخشى من أي فكر جديد مخالف لثقافة الحاضرين، أو لم يأت به أي من السلف الغائبين، فكراً مرفوضا وجب رده ومحاربته؟ أو بعبارة مختصرة، لماذا أمسينا نمتلك كثيراً من المقلدين وقليلاً من المفكرين؟
إختلفت الكتابات والأفكار حول العوامل التي سمحت لإنحدار المنهج العلقي وسقوطه من قمة الصدارة العلمية إلى هاوية الجمود، وسأبحث عبر سلسلة من المقالات البحثية النقدية، أهم الاسباب التي ساهمت باعتقادي في هذا الواقع،. لكن لابد من الإشارة هنا إلى أن هذه السلسلة تعالج الاسباب الخاصة بالتأخر العلمي والمعرفي للدول العربية، مقابل تقدم غيرها في الإنتاج البحثي والمعرفي، وكيف أثر ذلك على واقع الإنهزام والإنحدار الذي يعيشه عالمنا العربي في هذا العصر، رغم أن ما سنطرح من أسباب للتأخر العلمي ستتشابك وتتلاقى بالمحصلة مع الانهيارات الاخرى سواءً السياسة، أو الإقتصاد، أو العسكرية، أو الإجتماعية، أو غيرها.
وبالتالي، سأنطلق في هذه السلسلة، والتي يمثل هذا المقال التمهيدي الجزء الأول منها، بالعامل التاريخي، ثم أثر الإستبداد السياسي، والعامل الديني الفقهي، ونظم التعليم، والمركزية والفساد، والنرجسية الفكرية، وصولاً إلى العامل الإجتماعي ، لبحث ومناقشة كيف أثر كل عامل من تلك العوامل على واقعنا العلمي والمعرفي حتى وصل بنا إلى معطيات اليوم، بينما تمكن غيرنا من الصعود عبر سلم التقدم المعرفي حتى تمكن من قيادة العالم. وهذا ما سنعمل على تفصيله في المقال القادم.