نابلس - النجاح الإخباري - شائت الأقدار أن أعمل في مجالات عدَّة، إلا أنَّ الأهم والاعز كان عملي في الإذاعة الفلسطينية بدءًا من صوت العاصفة في العام (1971) إلى أن أوصلتني الإذاعة الفلسطينية إلى أعلى مرتبة عالمية تجسَّدت في رئاسة الإذاعة الفلسطينية لاتحاد الإذاعات العربية، ثمَّ الاتحاد الدولي للإذاعات على مستوى العالم.
وفي هذه الأيّام تحلُّ ذكرى انطلاقة صوت فلسطين من على أرض الوطن ذلك بعد رحلة طويلة وشاقة ومجيدة.
عظمة تجربة الإذاعة الفلسطينية تتجسد في أنَّها انطلقت وتواصلت تحت النار والحصار والهجرة، قُصفت وابيد مبناها في أكثر من مكان، واقتلعتها من جذورها جرافات شقيقة، وصدر بحقها مراسيم سلطوية بإغلاقها بفعل خروجها عن النص الرسمي المألوف في دول الضيافة، وتشتَّت على عدَّة أماكن في أقصى شرق الوطن العربي إلى أقصى مغربه، حملتها الإذاعة الجزائرية على جميع موجاتها العاملة فوصلت إلى كلّ مكان على سطح الكوكب، ومنحتها بغداد وعدن وصنعاء موجات تكفلت بإيصالها إلى معظم أرجاء الكون، التقطها فلسطينيون في أمريكا وأوروبا وأمريكا اللاتينية وأعادوا بثَّها على موجات محليَّة فجسدت أهم وأعمق صلة وصل بين الفلسطينيين في الشتات وأهلهم على أرض الوطن.
حمل الأثير أصواتا عزَّ نظيرها في القوة واللمعان والتأثير، لم يذكر خلال مئات آلاف الساعات التي بثَّتها الإذاعة الفلسطينية أيّ اسم لا لمذيع، ولا لكاتب، ولا لمؤلف أغنيات، ولا لملحن، فكان صوت فلسطين المعلوم جداً والمشهور جداً مجهول الأسماء كي لا يرتبط قول أو نشيد بغير الثورة بمعناها الجمعي وأداءها القائم على نكران الذات.
كلمة السر تكمن في أنَّ الإذاعة الفلسطينية التي دمرّت يوماً وأغلقت أياماً وحوصرت في العديد من الأماكن، لم تغب عن الأثير لحظة واحدة، تمامًا مثل القضية التي نطقت باسمها ونشرتها على مستوى العالم كلّه لهذا سجَّلتها في حياتي وذاكرتي كأهم عمل قمت به طيلة حياتي، ولو سألت كل من عمل في هذه الإذاعة عن أغلى وأحلى أيامه في الحياة لقال لك بلا تردد إنَّها أيام الإذاعة.
كلنا بدأنا من الصفر وصعدنا سلَّمها ومنا من قضى نحبه كواحد من أبطال ملحمتها الأسطورية ومنا من كتب له أن يظلَّ على قيد الحياة كي يحتفل كل عام بذكرى انطلاقتها الأولى، وليزهو بانتسابه اليها ويفخر بأنَّه وضع في بنائها الكبير حجرًا أو مدماكًا أو سقفًا، ومثلما لفّت إذاعة الثورة كلّ الكون لتعود أخيراً إلى أرض الوطن فإنَّ قدر الشعب الفلسطيني أن يعيش كلَّ صنوف العذاب والاغتراب والألم لأنَّه سوف يعود أخيرًا كما إذاعته إلى أرض وطنه.