وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - مازالت أصداء حرب أكتوبر بين العرب وإسرائيل تأتي من بعيد. فمسافة نصف القرن الطويلة لم تتكفل بإزالة الكابوس الذي تحقق يوماً ما في دولة أصيبت بصدمة. ويتردد اسم هذه الحرب كلما شعر الإسرائيليون بتهديد ما، مستعيدين ما حدث قبل خمسة عقود حين أخذتهم هول المفاجأة نحو واقعية كانت قد قضت عليها حرب حزيران قبل ست سنوات من أكتوبر.
كانت مأساة اسرائيل وما زالت في الشعور بالتفوق والغرور واحتقار الآخر، وأن القوة العسكرية وحدها هي الوسيلة الوحيدة لوجودها في المنطقة. تلك عقيدة قامت عليها السياسة التي رسمها المؤسس دافيد بن غوريون الذي أصيب قهراً بعد حرب أكتوبر بشهر بنزيف حاد في الدماغ حيث كان يشهد انهيار نظريته على يد الجيشين المصري والسوري.
شكلت حرب حزيران فاصلاً في تاريخ الدولة التي ولدت من جديد، فلم تكن تضم حينها أقل من 20% من يهود العالم الذين لم يكونوا يثقون بقدرة الدولة على البقاء ولم يرحبوا بالهجرة، فقد كانت إسرائيل قبلها مجرد قنبلة نووية ومجموعة صغيرة من السكان. لكن بعد ما حققته اسرائيل في الحرب والثقة بقدرتها في البقاء بدأت مجموعات الهجرة تصبح دولة ومجتمع، لكن حرب أكتوبر هزت تلك الصورة من جديد.
للمرة الأولى في تاريخها تشكل إسرائيل لجنة تحقيق برئاسة القاضي شيمون اغرانات أصدرت تقريرها في 1500 صفحة لم ينشر منها سوى 40 صفحة، وظلت أوراقها ضمن أكثر الملفات سرية، ربما لأنها احتوت على معلومات سرية جاءت من متعاونين من العرب كما أشارت بعض المصادر الإسرائيلية. وقد تم تداول هذه المعلومات لكن القيادات العسكرية الإسرائيلية التي كانت ثملة بخمر انتصار حزيران والغرور الفاقع لم تأخذها على محمل الجد، الأمر الذي أوصت به اللجنة بإقالة رئيس الأركان دافيد اليعازر ورئيس شعبة الاستخباراات العسكرية إيلي زاعيرا الذي سمع نبأ إقالته من الراديو. ولم توص اللجنة بإقالة غولدا مائير رئيسة الوزراء وموشيه ديان وزير الدفاع، إذ اعتبرت الأمر من اختصاص الكنيست، لكن الشعب الإسرائيلي الذي خرج إلى الشارع أرغمهما على الاستقالة.
نتائج تلك الحرب ولّدت تحولات هائلة في الداخل الإسرائيلي، حيث كانت هزيمة ساحقة للتيار العلماني الذي أسس الدولة وتحكم في كل تفاصيلها، مستبعداً الشرقيين والمتدينين، هؤلاء استمدوا من هزيمة العلمانية مركز قوتهم ونقطة انطلاقهم نحو المشروع الاستيطاني الذي بدأ تماماً منتصف السبعينات، ولم تمر خمس سنوات حتى كانت اسرائيل تزيح ذلك الإرث العلماني عن السلطة وتنتخب الحزب اليميني الليكود. ومنذ ذلك التاريخ بدأت اسرائيل بالانزياح نحو اليمين وصولاً لما تشهده حالياً من صدع .
وقد أحدثت الحرب أيضا تحولات هائلة أيضا على الصعيد العربي، حيث تسببت بطفرة في ارتفاع أسعار النفط ما أدى إلى تكدس رؤوس أموال عربية في دول الخليج التي استفادت منها لينتقل مركز الثقل الاقتصادي العربي نحو الدول المنتجة للبترول، وما أن جاءت الثمانينات حتى شهدت انطلاقة لتلك الدول من مركزها الجديد، ما فتح شهيتها لاحقاً لنقل مركز الثقل السياسي العربي في عواصمها وهو ما دفعت ثمنه مصر، حيث تطلب ذلك التحول تهميش القاهرة كمركز وهو ما حاولته دولة منها قبل أكثر من عقد.
تمكنت القوات المسلحة المصرية من تحقيق معجزة المستحيل التي صنعها حاييم بارليف باقتحام الجدار الأكثر استعصاء. وكانت القيادة المصرية قد استعادت ثقتها بنفسها وبقدرتها على تحقيق النصر وإزالة آثار حزيران وتحرير الأرض، فقد تجهزت بخطط عسكرية محكمة تحت قيادة زعيم مراوغ أدهش أصدقاءه قبل الخصوم، فقد أدار لثلاثة أعوام حملة تضليل ناجحة انطلت حتى على المصريين أنفسهم ليفاجئ الجميع بسرعة الحزم عندما تطلب الأمر، متكئاً على عدد من القيادات العسكرية الأكثر كفاءة.
يحتمل تاريخ المنطقة تقديم العديد من القراءات لتلك اللحظة التاريخية ونتائجها التي ستمتد لعقود، لكن ما لا يمكن تجاوزه في كل تلك القراءات مركزية مصر وموقعها في التاريخ العربي، حيث شكلت تيرمومتراً يصلح للقياس إذا ما تتبعنا نهضة العرب في ذروة القوة المصرية وتراجع المنطقة العربية عندما تراجع الدور المصري، وتآكل الوضع العربي تماماً منذ دخلت مصر في معمعة الثورة وانشغالها الداخلي وتراجع حضورها الدولي والعربي سمح لدول هامشية أن تتقدم لتعبئة الفراغ، لكنه لم يكن تقدماً نموذجياً بل أدى إلى مزيد من الانهيار العربي .
تجربة المنطقة تقول إن قوة العرب من قوة مصر وهذا يمكن رؤيته أكثر بعين فلسطينية، لكنه أيضا ينطبق على ما هو أوسع في السودان وليبيا واليمن وسورية، وهو ما يجعل من التمنيات بعودة الحضور المصري الذي عملت الإدارة الأميركية في السنوات الأخيرة على تجاهله مصلحة عربية للذين تكمن مصلحتهم بدعم مصر وتتويجها.
في اسرائيل هناك تساؤلات عن قوة وتعاظم الجيش المصري وتسليحه وتنوع مصادر السلاح كأن لا اتفاقيات سلام معها، ما يشي بحضور القوة المصرية في النقاش العام في اسرائيل، ومصر ليست قوة عسكرية فقط، فقد كانت في عقود سابقة مركزاً لكل شيء، الذين يأتون من هناك بعد انزياح وباء كورونا يتحدثون عن ورشة عملاقة تجري في البنية التحتية للدولة تعكس الرغبة والقدرة المصرية لعودة الحضور المصري، وهو أمل عربي يراود كل الذين حلموا بلحظة تشبه تحقق حلمهم في هذا اليوم .... قبل خمسة عقود.