أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - لم تعد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بتلك الأهمية كما الماضي، حين كان للسياسة وزنها قبل أن تختل إدارة العالم، ليس فقط بسبب التفرد في قيادته بعد نهاية عصر الأقطاب بل بسبب دخول رأس المال كأبرز الفواعل الرئيسية جعل السياسة في العقود الأخيرة مجرد واجهة لشهيته المفتوحة بلا حدود، فأطاح بكل القواعد والمعايير.
أضعفت الأمم المتحدة نفسها كثيرا عندما حولت جلساتها إلى ما يشبه الدردشة السياسية بلا فعل، وحين تحولت قراراتها إلى مجرد حبر على ورق ليتم احتكارها في مجلس الأمن، وأضعف مجلس الأمن نفسه عندما كان انتهازياً في قراراته وانتقائياً في تنفيذها مستأسداً ضد دول وكالنعامة ضد دول وحكومات تخترق الأعراف والمواثيق صباح مساء، وأضعفت الولايات المتحدة مجلس الأمن حين تجاوزته ووضعت نفسها بديلا عنه .
لم يبق في مؤسسات الأمم المتحدة سوى الهياكل التي لم تمنع حروباً ولم تصنع سلاماً، بل فتحت حروباً زائدة وتركت ما يكفي من المآسي في التاريخ الحديث لتبدو كما بدت عصبة الأمم في سنواتها الأخيرة. والغريب أكثر أن الولايات المتحدة التي استدعت كبار المحامين الأميركيين لصياغة مواثيق الأمم المتحدة بعد أن فشلت سابقتها بمنع الحرب في أوروبا، وأقامت المؤسسة الدولية على أرضها في إحدى ولاياتها في نيويورك هي نفسها من ساهم بإضعافها .
العالم يتغير وتلك سُنّة السياسة، فهي كالكائن الحي تتجدد خلايا وتموت أخرى، تهرم في لحظة ما، تتغير عوامل القوة وتتبدل الجغرافيا وتختلف الظروف، كان للأمم المتحدة هيبتها في عشريتها الأولى.
سقط الاتحاد السوفييتي فتغير العالم، ضعفت دول وامتلكت أخرى ممكنات قوة، وبقيت تركيبة المؤسسة حسب نتائج وموازين الحرب العالمية الثانية، وما تأسس بروح الحرب ولدغة الضمير بات ينحي هذا الضمير جانباً دون أن يرف له جفن.
تنتشر صورة لثلاثة رؤساء أميركيين كلنتون - بوش الصغير- أوباما وكتب تعليقا عليها «هؤلاء الثلاثة هاجموا تسع دول خلال ثلاثة وعشرين عاماً وتسببوا بقتل أحد عشر مليون من السكان المدنيين». وعلى امتداد ذلك كانت تجتمع الأمم المتحدة في موعدها بلا تأخير فالانتظام هنا مهم ولكن القيم والأعراف والقدرة والأخلاق شيء آخر، ربما تلك كانت تختصر كل ما يمكن أن يقال عن أهمية الأمم المتحدة وجمعيتها العامة ومجلس أمنها.
القواعد القديمة التي نشأت نتاج توازنات الأربعينات تخلخلت كثيرا، والثقافة التي أُنتجت آنذاك مصحوبة بهزة إنسانية تغيرت أيضاً، تلاشت عواصم كبرى وتضخمت عواصم كانت على الهامش أو خرجت محطمة من الحرب، فأعادت بناء نفسها، ما أحدث حراكاً عالمياً جديداً وصراعاً على مراكز القوة قد يفسر جزءا من هذا التضارب والتضاد حد الهمس عن القوة الذرية، وباتت أزمة الكون وعدم استقراره أسرى لهذا الصراع الخافت بين عالمين، عالم جديد يولد لكنه لم يتقدم وعالم قديم يرفض المغادرة. كل ذلك لم يتبلور بشكله النهائي لإعادة ترتيب للكرة الأرضية، وإلى أن يتبلور سيكلف ما يكفي من الدم وسيبقى الاجتماع السنوي للأمم المتحدة منتظماً بلا تأخير.
في طقس اجتماع الجمعية العامة يقول المتحدثون ما يريدون بلا حيلة، يفضفضون، يشتكون، يستعرضون، يتحدثون عن الأمل والتعاون والأحلام والسلام والعدل في عالم بلا سلام ولا عدل، بعضهم لا يتغيب عن الخطابات وآخرون ينامون في الجلسات بلا مبالاة من مؤسسة بلا حول ولا قوة أصبحت على هامش التاريخ وحركته وصراعاته.
الحدث الأبرز لهذا الطقس السنوي هو ذلك الطابور الطويل الذي يصطف فيه أكثر من مائة زعماء العالم الذين يشكل اسم بعضهم رعباً لشعوبهم لمصافحة الرئيس الأميركي، وأن يحظى كل منهم بملاطفة الرئيس والتقاط صورة تذكارية، فهذا يستهلك كثيراً من الوقت يزيد من زمن الانتظار الذي يتم تحت حراسة الأمن الأميركي خوفاً من تجاوز أي منهم للترتيب، ولضمان النظام في الطابور وسط ضجر وحرج الزعماء من الموقف، وخصوصاً زعماء العالم الثالث الذين تطول طوابير شعوبهم ونخبها أمامهم، لكن العالم المتقدم قد اعتاد على المساواة مع شعبه ولا يعتبر زعماؤه أن في الأمر إهانة.
كان القذافي رحمه الله يضفي جواً من المرح في هذا الطقس السنوي عندما يحضره، أما الآن فقد بات خالياً إلا من الكآبة التي يخترقها صوت الرئيس الفلسطيني محمود عباس وهو يناشدهم «احمونا ..احمونا» في مؤسسة يدرك كل قراء التاريخ والمشتغلين بالسياسة أنها غير قادرة على حماية نفسها وقراراتها.
ماذا ستفعل الأمم المتحدة لو اندلع صراع صيني مع جزيرة تايوان؟ ماذا ستفعل في الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟ ماذا فعلت عندما اكتشفت خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل؟ هل راجعت أحداً؟ ماذا ستفعل جمعيتها العامة السنوية ومجلس أمنها في الاستيطان الإسرائيلي المتمدد رغم قراراتها ومجلس الأمن؟ لا شيء سوى الصور والعلاقات العامة....!