وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - كل شيء في حياة الفلسطينيين يبدأ مؤقتاً إلى حين تصويبه ولكنه يتحول إلى دائم. فالعوارض وخاصة المرضية منها تتحول إلى أمراض مزمنة، فاللجوء العام 48 كان مؤقتا إلى حين العودة لكن المخيمات أصبحت جزءا من الواقع، منظمة التحرير تم إنشاؤها لهدف التحرير المؤقت لتتحول مع الزمن دون أن تحرر إلى العجل المقدس الذي يجب الحفاظ عليه، حتى وإن فقدت أسباب وجودها التي تمثلت بالصدام المسلح مع إسرائيل لتحرير البلاد كما طلب عبد الناصر من أحمد الشقيري.
«أوسلو» المؤقت والمسقوف بخمس سنوات تحول إلى دائم، والسلطة التي تم تصميمها لإدارة شؤون الفلسطينيين لفترة مؤقتة تحولت إلى دائمة، والانقسام المؤقت تحول إلى دائم، والمجلس التشريعي المحدود زمنيا تحول إلى دائم، والرئيس المنتخب لولاية تحول إلى دائم والمفاوضات المؤقتة مع إسرائيل تحولت إلى دائمة وحوارات المصالحة أيضا كذلك، هكذا الأمر بالنسبة لشعب كل شيء في حياته يبدأ مؤقتا ولا ينتهي.
وحيث إن معالجة نتائج النكبة والتشتت أكبر من طاقة الفلسطينيين وخارج إرادتهم لأن الأمر حينها كان مؤامرة كونية بكى فيها رئيس أميركي مثل هاري ترومان فرحا حين حدثت، وإذا كانت منظمة التحرير لم تصل لهدفها بعد لكن باقي التفاصيل يمكن للفلسطيني أن يغير مجراها لأنها تقع في مجال إرادته وإدارته التي يملك فيها إمكانيات التأثير والتغيير، لم يتم عرض النماذج السابقة بهدف التذكير بالأزمات القائمة بقدر ما يمكن استخلاصه بانعدام كفاءة الفلسطيني في إدارة قضيته إلى الحد الذي يبدو فيه طرفا سلبيا تسوقه الأحداث دون أن يكون قادرا على التأثير فيها.
ما مناسبة التذكير بواقع شديد الوضوح حد أنه يضع أصبعه في أعيننا جميعا، ويفتح على مأساة تزداد تعقيدا لشعب ليس لديه أولوية سوى التخلص من تبعات الاحتلال ليجد أن واقعه يصبح أكثر تكريسا لأزمة الاحتلال بعيدا عن الأحلام الكبرى وشعاراته. لكن الواقع بات مختلفا بعد ثلاثة أرباع القرن على مأساته وثلاثة عقود على الاتفاق الذي أحدث تحولا في المسار التاريخي وتسبب في تعميق المأزق، كل هذا يعكس خطأ ما في المسار ولأن الفلسطيني لا يعرف المراجعة ولا التراجع ولا الوقوف عند الظواهر حتى السلبية منها محاولا التغلب على سوداويته بالشعار الوردي، أخذ هذا الواقع يتدهور اكثر.
مناسبة الأمر أن العالم يتغير ويشهد تحولات كبرى لم يتوقع سرعتها كبار المفكرين ولا المنجمين حتى، ثورة تكنولوجية تحدث انقلابا في العالم القائم، اصطفافات وتكتلات تتغير معها ممكنات القوة. تَضعف أطراف وتنهض أطراف أخرى، وحروب تعيد للصدارة دولا هامشية وتضع دولا كبرى أمام خيارات مأزومة يجيء سؤال قدرة الفلسطيني صاحب القضية الأشهر والأكثر حضورا وحيوية على موضعة نفسه من جديد، مستفيدا من التحولات الكونية وتأثيراتها التي يفترض أن يبحث عن كل خرم إبرة يستطيع منه النفاذ نحو مصلحته.
الولايات المتحدة أثبتت بالدليل القاطع أنها وسيط ليس نزيها ولا محايدا في الصراع الدائر بين الفلسطينيين وإسرائيل، وما زال هناك من يطالبها بلعب دور في إحياء مفاوضات أزمنت لتمارس هوايتها في إدارة الصراع للأبد بلا حل رغم معرفة كل قراء التاريخ بقدرتها على إلزام إسرائيل، أما أوروبا منتجة قيم العدالة بعد أن هزتها كارثة حروب كبرى ومنتجة القيم الديمقراطية تبتلع لسانها على بوابات الحدود الفلسطينية، وفي المحيط، بعض الدول العربية تكتشف أن حكومات نتنياهو التي تتعامل معهم باستخفاف ارتباطا بثقافة متجذرة هي حكومات ديمقراطية متنورة جديرة بالتطبيع المجاني بلا ثمن في مشهد بلغ ذروة سرياليته.
التغيير الأبرز في إسرائيل بوصول حكومة يمينية دينية تحدث قدرا كبيرا من التآكل في قوة إسرائيل وحضورها وعلاقاتها الدولية، فهي لا تتوقف عن صناعة الأزمات ويكفي تصريح الحركة لبن غفير وتصريح محو حوارة لسموتريتش وبيانات الراعي الأميركي وعدم استقبال نتنياهو ومنع وزرائه الالتقاء مع نظرائهم الأميركيين، وإلى حد كبير ينسحب ذلك على معظم دول العالم.
أين الفلسطيني وماذا يفعل وكيف استثمر هذا التغيير سواء الدولي أو الإسرائيلي الذي قدم له جائزة كبرى ووفر أرضية لبرنامج ومجال عمل لا ينتهي؟ لا شيء سوى الانتظار والتجميد المكلف جدا والذي لا يبقي فقط الأمور على صعوبتها بل يزيدها تعقيدا. فالسلطة مع الزمن تتحول إلى مؤسسة خدماتية تقوم بإدارة شؤون السكان تحت الاحتلال عبر الإدارة المدنية، والانقسام الذي حدث بعد طرد حركة حماس للسلطة من غزة يؤدي مع الزمن إلى تباعد بين مجتمعين منفصلين بالمعنى النفسي والثقافي وأسس لانفصال دائم والمؤسسات التي انتخبت يوما تآكلت، كلفة الانتظار تزداد تباعا إلى الدرجة التي لا يحتملها الشعب وقضيته.
هل يمكن مراجعة التاريخ والاستفادة من التجربة؟ هذا لم يحدث ومن المشكوك أن يحدث رغم وطأة التجربة، فتلك ليست عرفا سياسيا فلسطينيا ولا عربيا حتى، هل يمكن الاستفادة من تغيرات تفرضها اللحظة الكونية؟ من المشكوك فيه أيضا رغم أن هناك فرصة وفرتها تلك اللحظة السياسية عادة تتطلب رشاقة وسرعة استجابة لأن الكلفة أقل من كلفة الانتظار، لقد اتسعت كثيرا مساحة الحركة بالنسبة للفلسطيني وتنتظر دوره، ويمكن أن يفعل الكثير وهو قادر لكن ليس قبل الوقوف أمام التجربة والمساحة والبرنامج الممكن الذي وفرته.