بقلم: د. ســائــد الكونــي - النجاح الإخباري - المآسي الكثيرة التي عاشها الفلسطينيون منذ بدايات القرن الماضي، وما تبعها من قهر وحرمان ومعاناة عاشها أجدادنا وآباؤنا ونعيشها اليوم وأبنائنا وأحفادنا، جعلت من التعليم ضرورة ملحة لدى الفلسطيني في سعيه نحو تحقيق العيش الكريم والمستوى الاجتماعي اللائق له ولأفراد أسرته.
نكبة العام 1948 ونكسة العام 1967 شردتا مئات الآف من الفلسطينين وأفقدتهم أراضييهم وممتلكاتهم ومصادر رزقهم، فكان التعليم وسيلة للتمرد على واقع قاسى من اللجوء والمعاناة، وفسحة أمل لا زال يحلم من خلالها شبابنا المقهور وأهاليهم المعوزين بغدٍ أفضل سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًّا، بالرغم من وصولنا نهاية النفق المظلم، واتضاح وحشية الذئب، وتبني المجتمع الدولي لروايته، ولكننا وحسب قول الطغرائي نعلل "النفس بالآمال نرقبها فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".
اقتصر التعليم العالي في فلسطين ببداياته على أبناء العائلات الميسورة وذات المكانة الاجتماعية والسياسية، بسبب ارتفاع تكاليفه من ناحية، حيث كان توجه الطلبة الرئيس نحو الجامعات المصرية والأمريكية والبريطانية في ظل عدم وجود أخرى فلسطينية، وصعوبة إجراء الاتصالات اللازمة للحصول على قبول في تلك الجامعات من ناحية أخرى. لكن الحاجة إلى التعليم العالي تنامت بشكل متسارع بعد نكسة العام 67، حيث أصبحت الشهادة الجامعية وسيلة للحصول على فرص توظيف في إحدى الدول العربية المجاورة، خاصة الخليجية منها والمملكة العربية السعودية، وباتت العائلات الفلسطينية مستعدة للتضحية بأساسياتها الحياتية من أجل تأمين تكاليف تدريس أبنائها في جامعات الخارج، عربية أو أمريكية وأوروبية وغيرها، على أمل أن يكونوا عونًا لأنفسهم ولهم بعد تخرجهم وحصولهم على وظيفة في دول الجوار.
ترسخت مع هذه الحاجة الملحة، فكرة انشاء جامعات فلسطينية في الوطن في أذهان مجموعة من الشخصيات الوطنية، حتى توفر فرص الالتحاق بالتعليم العالي للشباب الفلسطيني داخل الوطن للحد من هجرته إلى الخارج، فكان تأسيس كلية الشريعة في العام 1971 كنواة لجامعة في مدينة الخليل، تبعها تأسيس جامعة بير زيت في العام 1972، وفتحت جامعة بيت لحم أبوابها عام 1973، ولحقت بالركب في العام 1977 جامعة النجاح الوطنية، وشهد ذات العام تأسيس مجلس التعليم العالي الفلسطيني الذي ضم في عضويته تلك الجامعات، وأخذ على عاتقه كجهة مركزية، مهمة التخطيط والتَّطوير والاشراف على قطاع التعليم العالي في فلسطين، واتسعت عضوية المجلس لتضم لاحقاً الجامعات الأخرى التي توالى انشاؤها؛ منها الجامعة الإسلامية في غزة عام 1978، تبعتها القدس/ابو ديس عام 1984، وجامعة القدس المفتوحة وجامعة الأزهر عام 1991.
وكما كان متوقعًا، لعبت الجامعات المؤسّسة، والتي اعتبرت بمثابة الأم والحاضنة للتعليم العالي في فلسطين، دورًا وطنيًّا هامًا في تاريخ القضية الفلسطينية المعاصر، حيث شكلت عنواناً للصمود والمقاومة في مواجهة القهر والعدوان الاسرائيلي على البشر والشجر والحجر، بالاضافة إلى دورها القيادي، التربوي والأكاديمي، في نشر رسالة الوعي والتنوير في كافة ربوع الوطن، في ظل غياب الدور الرسمي. ونجح خريجو هذه الجامعات في أن يسجلوا نجاحات مهمة على صعيد سوق العمل المحلي وفي الداخل الفلسطيني، وكذلك ساحات العمل الخارجية التي استقطبتهم لكفاءتهم العالية.
بنشوء السلطة الوطنية الفلسطينية في مطلع تسعينات القرن الماضي، أضيف إلى التعليم العالي في فلسطين فلسفة وأهداف جديدة تقوم على أساس الإسهام في تحقيق التنمية المحلية المستدامة في الوطن، باعتبار التعليم العالي المصدر الرئيس لرفد مؤسسات الدولة الفلسطينية الناشئة، ومؤسسات المجتمع المدني وسوق العمل المحلي بالمهارات والكفاءات البشرية اللازمة لإحداث التنمية المنشودة. وتنظيماً للجهود صدر في العام 1994 مرسوم رئاسي يقضي بأن يستمر مجلس التعليم العالي بأداء مهامه بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم العالي التي أنشئت في ذات العام لرعاية عملية التعليم عموماً في فلسطين، وأضيف إلى عضويته بموجب المرسوم خبراء أكاديميون وتربويون وممثلون عن مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص.
بتعثر عملية التسوية السلمية في الوطن، ونكوص الجانب الإسرائيلي عن الوفاء بتعهداته والتزاماته الدولية كافة، واجهت مؤسسات الدولة الفلسطينية، ومن ضمنها مجلس التعليم العالي والمؤسسات المنضوية تحت لوائه، تحديات كبيرة على صعيد تحقيق معظم أهدافها المنشودة؛ بسبب التراجع الحاد في الدعم المالي الخارجي والعربي للسلطة الوطنية الفلسطينية، وما تبعه من عجزها عن الوفاء بدفع مستحقات الجامعات المالية، في ظل تدني الأقساط الجامعية للحالة الفلسطينية العامة المعروفة، وما صحبها من ازدياد للإعفاءات الطلابية من الرسوم الدراسية، الأمر الذي أدى إلى تراكم العجز المالي لهذه المؤسسات لسنوات متتالية، ودفعها إلى البحث عن فرص استثمارات تدر عليها عوائد ذاتية، حتى تمكنها من مواصلة مسيرتها الأكاديمية والبحثية وتحقيق أهدافها المجتمعية.
في ظل هذه التحديات التي تتطلب تضافر الجهود والخبرات، تطلّ علينا قبل أيام قليلة التشكيلة الحالية لمجلس التعليم العالي بحضور باهت للجامعات العامة لا يتعدى أصابع اليد الواحدة في مجلس يبلغ تعداده 24 عضواً غالبيتهم من ممثلي الوزارات، وغيرهم من أكاديميين وممثلين عن المجتمع المدني والقطاع الخاص يتم تنسيبهم من قبل جهات حكومية، ما يعني تغيّب جامعات وازنة في الوطن عن صناعة القرارات الهامة والمفصلية المتعلقة برسم استراتيجيات وسياسات التعليم العالي طويلة المدى في الوطن.
والأدهى والأمرّ أن يستثنى من عضوية المجلس جامعات أم مؤسسة للتعليم العالي في فلسطين، حملت على عاتقها مسؤولية قيادة دفته، والحفاظ على مقدرات الوطن البشرية وصقلها وطنياً، متحدية بلا هوادة مضايقات الاحتلال ومعيقاته لسنوات طويلة قبل تولي وزارة التعليم العالي اليد الطولى في توجيه ادارة الدفة، بالرغم من أن هذه المؤسسات تتمتع اليوم بتصنيفات أداء وجودة مُتقدِّمة في مختلف مجالات عملها وفق أبرز التصنيفات العالمية المرموقة، بالاضافة إلى حضورها الدولي اللَّافت، وأخص بالذكر جامعة النجاح الوطنية كبرى جامعات الوطن التي ترأس شبكة اتحاد الجامعات اليورومتوسطية ألــUNIMED للأعوام 2023-2026، ويتم استثنائها للدورة الثانية على التوالي من عضوية المجلس بحجة قاعدة التَّناوب في عضويَّته، أو حريَّاً القول "قاعدة الادارة بالإقصاء"، في حين أنه من المفترض أن تحصل جميع الجامعات الأم على عضوية دائمة في المجلس، لما لها من باع طويل في بناء مؤسسات الوطن وتحقيق أهداف التنمية المستدامة فيه، ناهيك عن مكانتها العلمية والبحثية العالمية المرموقة، وخبراتها المعرفيٍّة المُتراكمة التي تشكل بالتأكيد رافعة عمل ايجابة لعمل المجلس.
بقلم: د. ســائــد الكونــي