نابلس - النجاح الإخباري - مشهدٌ تعُمُّه الفوضى الشاملة.
كأنّنا على خشبة مسرحٍ إغريقي قديم.
إيطاليا ترتّب اللقاء بين وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين وبين نظيرته الليبية نجلاء المنقوش، وهذه الأخيرة تقول إنّه لقاء عَرَضي ــ بعد افتضاح أمر اللقاء طبعاً ــ ورئيس حكومتها عبد الحميد الدبيبة المحسوب على جماعة "الإخوان المسلمين"، يقول، إنّه لم يكن على "علم" باللقاء، ثمّ ليتبيّن أنّه كان على علمٍ كامل، وبصورةٍ لا تقبل الجدل على الإطلاق، ثمّ يحصل كوهين على سبق صحافي مُدوٍّ وكبير، وتتنصّل وزارة الخارجية الإسرائيلية من "مسؤوليتها" من تسريب الخبر، وتصل الأمور إلى أن يرفض بنيامين نتنياهو نفسه الإفصاح عمّا إذا كان على علمٍ مُسبق بتسريب الخبر أم لا، ثم يتبيّن أنّ اللقاء لم يكن عَرَضياً على الإطلاق لأنّ ثائرة جو بايدن قد ثارت بكلّ حدّة بسبب "الضرر الكبير" الذي ألحقه هذا التسريب بـ(الجهود الأميركية المكثّفة) التي بذلتها هذه الإدارة على مدى عدّة شهور لإلحاق حكومة الدبيبة بـ"الاتفاقات الإبراهيمية" على حدّ وصف هذه الإدارة.
وكشف الغضب الأميركي ليس فقط أنّ هذه الإدارة القابعة في البيت الأبيض، كانت وما زالت تعمل على مدار الساعة لإنجاز صفقات تطبيعية جديدة مستخدمةً أعلى أشكال الابتزاز لرئيس حكومة طرابلس "الإخوانية" في الهوى والهويّة.. وإنّما هي في سبيل ذلك مستعدّة بالكامل لدعم حكومة التطرّف اليميني في إسرائيل، طالما أنّ الصفقات "التطبيعية" ستساعد الرئيس بايدن في الانتخابات، بصرف النظر، وبصرف النظر كلياً عن "الانتقادات" الأميركية لهذه الحكومة على خلفية "الإصلاحات القضائية".
وتبيّن، أيضاً، أنّ اللقاء في روما لم يكن سوى ثمرة من ثمار تلك "الجهود" التي وصلت إلى زيارات "خاصّة" قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان نتج عنها ليس فقط قبول حكومة طرابلس بمسار "التطبيع"، وإنّما "تسليم" المسؤول عن حادثة "لوكربي"، والتعهد بدعم الدبيبة إذا ما تعرّضت حكومته لمكروه السقوط في المراحل القادمة، وهو ما جعل رئيس حكومة طرابلس "الإخواني" يوافق على هذا الالتحاق، و"تحفّظه" فقط على سرعة مسار "التطبيع" مع إسرائيل.
في الفيلم إيّاه (الفنكوش)، يجيب عادل إمام عندما يسأله الراحل أحمد راتب، على ما أظنّ: "يطلع إيه الفنكوش؟"، يطلع زي ما يطلع، المهمّ يطلع وخلاص".
الحقيقة أنّ نتنياهو كان يبحث عن (الفنكوش)، وكان وزير خارجيته كوهين يبحث عن نفس (الفنكوش)، وحتى الإدارة الأميركية أصبحت تبحث عن (فنكوش) ما قبل الانتخابات لاعتقادها أنّ (فنكوشاً) من هذا النوع بات "ضرورياً" للرئيس بايدن، وليذهب الدبيبة إلى "الجحيم"، ولتذهب "الإصلاحات القضائية" في سِتّين داهية!
ولأنّ كوهين ونتنياهو متلهّفان على هذا (الفنكوش).. فلتذهب "المنقوش" إلى أيّ مكان، حتى لو تمّ إلقاؤها "تحت عجلات العربة" على حدّ تعبير أحد الكتّاب الإسرائيليين.
ما أن خرج الليبيُّون إلى الشوارع حتى ارتبك المشهد كلّه، وبدأ الممثّلون يهربون من على خشبة المسرح، وبدأت معارك "العتاب" وتقاذف المسؤوليات، وبدأ البعض بالصُّراخ، والبعض الآخر باللطم على الخُدود، واختلطت مشاهد التراجيديا بالكوميديا التي تعكس واقع الحال العربي في صورته الهزلية، تماماً كما تعكس أصالة الشعوب العربية في الانتماء إلى فلسطين وشعبها وحقوقه وأهدافه.
المُحيِّر في الأمر كلّه هو أنّ الإدارة الأميركية تعرف حقّ المعرفة، أو هكذا يفترض، أنّ شعوب أُمّةٍ بكاملها لا توافق على "التطبيع"، وتعرف أنّ ما جرى من "تطبيع"، قديمه وجديده لم يُغيّر في قناعات هذه الشعوب شيئاً حقيقياً أو جوهرياً يمكن الاعتداد به أو المُراهنة عليه، وتعرف إسرائيل، أيضاً، هذه الحقائق، إلّا أنهما ــ أي الولايات المتحدة وإسرائيل ــ تُصرّان عليه، وتعتبرانه مُمكناً ومُتاحاً دون أن تحلّ القضية الوطنية الفلسطينية من كلّ جوانبها!
إذا كانت هذه هي "قناعة" الطرفين فهي تعكس عُمقاً سياسياً ليس له مثيل، أمّا إذا كان الأمر يتعلّق "بمكاسب" آنية سريعة على طريقة الوجبات السريعة فهذه ليست سياسة عقلانية، ولا واقعية، ولا حتى عملية، لأنّ شأناً على هذه الدرجة من الأهمية، أي "تطبيع" علاقات إسرائيل مع المحيط العربي، وانخراطها واندماجها فيه بهدف (إعادة السيطرة عليه والتحكُّم بمقدّراته).. لا يمكن أن يتحقّق فعلياً في ظلّ "التنكُّر" للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، حتى ولو أنّ الواقع الفلسطيني على هذه الدرجة من التفكُّك والهشاشة والضعف، وحتى لو الانقسام الفلسطيني أصبح يُغري الولايات المتحدة وإسرائيل بسياسات كهذه.
تبدو الإدارة الأميركية، هي وإسرائيل، وحتى بعض العرب والفلسطينيين في حالة انفكاك عن الواقع، ويبدو "الغرب" كلّه وكأنّه يعيش في غيبوبة سياسية، لأنّ بعض "النُّخَب" أصبحت تُجاهر، وربّما "تتفاخر" بأنّها لم تعد ترى في إسرائيل عدوّاً، ولم تعد ترى أنّ للشعب الفلسطيني حقوقاً سيستحيل على إسرائيل استمرار التنكُّر لها.
هناك ــ على ما يبدو ــ ما هو أبعد وأعمق من "البَلَه" السياسي أو عُقم السياسات، وأغلب الظنّ أنّنا بحاجة إلى أن نعيد النظر بمفاهيم العقلانية والواقعية والعملية عندما يتعلّق الأمر بعقلية المُسْتَعْمِر، إذ إنّ هذا المُسْتَعْمِر ــ كما أرى ــ لا يُؤمن بأنّ شعوبنا مُؤهّلة لأن يكون لها من الوزن والقُدرة والوعي لكي يحسبوا لها أيّ حساب، وهم يشتركون مع معظم حال النظام العربي في هذا "الإيمان"، وهم يعتقدون على خلفيةٍ عنصرية في الواقع، أنّ العربي الجيّد، أو المسلم الجيّد، أو الآسيوي الجيّد، والإفريقي واللاتيني الجيّد هو الخاضع والخانع، وهو الجائع إذا لزمَ الأمر، ولذلك فإنّ معايير العقلانية والواقعية هي معايير مُجرّدة عن البعد الإنساني والأخلاقي، لأنّ اعتبار الربح والنهب والسيطرة والتحكُّم، بما في ذلك الربح في الانتخابات، والاستمرار في السلطة، والصراع على النفوذ، بما في ذلك النفوذ في السلطة نفسها.. هو المعيار الوحيد للعقلانية والواقعية.
أقصد أنّ الخلل من الزاوية العملية إنّما يكمن في عدم فهمنا وإدراكنا للاعتبارات المعيارية الخاصّة للمُسْتَعْمِر الذي أمعن بشعوب الأرض تنكيلاً ونهباً وتدميراً لكلّ مقوّمات وأسباب عيش هذه الشعوب. ولهذا فنحن بالنسبة لهم لسنا أكثر من (فنكوش).
وإلى اللقاء مع (فنكوش) جديد على أبواب انتخابات جديدة، ولا عزاءَ للسيدة "منقوش".