وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - لندع الفاسدين والسرّاق جانباً، فهذا الموضوع يحتاج معالجة خاصة، ولنركّز حديثنا على هؤلاء الذين يظنون أنهم غير فاسدين، ولكنهم يقومون بأعمالهم بشكل غير متقن «وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا».. وإليكم بعض الأمثلة:
الأم التي تعطي طفلها «آيفون» ليتسلى به، إنما تريد إسكاته وحتى تتخلص من إزعاجه.. والأب الذي يضرب ابنه حين يخطئ، بحجة أنه يربّيه، هو في حقيقة الأمر لم يتمالك أعصابه وأراد تنفيس غضبه.. والمعلم الذي كل همه إنهاء المنهج في الوقت المحدد، ولا يعرف شيئاً عن مواهب طلبته ومشاكلهم واحتياجاتهم النفسية، ولا يعطيهم شيئاً خارج المقرر.. هؤلاء جميعاً يساهمون من حيث لا يدرون في تخريب النشء ومنذ وقت مبكر.
الرئيس والملك وزعيم الحزب الذي يسمع من مستشاريه ما يرضيه فقط، وما يبني عليه صورة نرجسية له.. والنائب الذي يتنكر لناخبيه، ويتجاهل مطالبهم، وكل مشروعه ينحصر في تكوين شعبوية زائفة.. هؤلاء يؤسسون لنظام سياسي فاسد ومستبد.
الوزير الذي ما إن يستلم وزراته يجدد أثاث مكتبه، ويغيّر الطاقم القديم، ويستبدلهم بموالين، لا شغل لهم سوى التملق وكتابة التقارير الكيدية، وتقديم معلومات غير صحيحة.
المدير العام الذي لا يرى في الموظف الكُفؤ والنشط إلا منافساً له، ويشكّل تهديداً لمنصبه، فيصير جلّ همه التخلص منه. والمدير ورئيس القسم وكل مسؤول يتجبر في مرؤوسيه حتى لو كان شخصاً واحداً، هم صورة مصغرة عن الدكتاتور.
رئيس البلدية الذي يجوب الشوارع، ويرى الحفر والمطبات، فلا يسارع لتصليحها، ولا يسعى لتطوير بلدته وتجميلها وتحسين خدماتها بأفكار خلاقة.
الموظف الذي يتلكأ عن خدمة المراجعين، والذي لا يسعى لتطوير مهاراته، ويظن أنه صاحب خبرة عشرين سنة، وهي عبارة عن عشرين سنة مكررة بأخطائها ومَللها وكسلها.
الطبيب الذي لا يفحص مريضه بشكل تام، ولا يشرح له أسباب مرضه وكيفية الوقاية منه، ويكتفي بقبض «الكشفية».
الصحافي الذي لا يميز بين الهاء والتاء المربوطة، ولا يعرف مواضع الهمزات، ولا يتأكد من دقة معلوماته، ولا يكلّف نفسه عناء البحث والتقصي.
الطالب أو الباحث الذي ينسخ عن «غوغل»، ويقتبس من أو يسرق نتاجات الآخرين، دون أن يبذل أي تعب، أو حتى يشغّل دماغه.
حامل الدكتوراه والمتميز في مجاله، الذي لم يقرأ كتاباً خارج تخصصه، والذي يسوّق الخرافات والغيبيات ويردد الإشاعات، وينقاد إلى القطيع مثله مثل أي أمّي.
صاحب المصنع الذي يصب كل جهوده وتفكيره لزيادة ثروته، ولا يفكر بتطوير منتجاته، ولا يسعى لتحسين جودتها.
الخياط الذي لا يحسن أخذ القياسات، و»البليط» الذي يعكس الميلان، و»الكهربجي» الذي لا يهتم بتوزيع الأحمال، فإذا شغّلت الجلاية والصوبة معاً تنزل الكهرباء. و»الصنايعي» الذي ستحتاج من بعده إلى عشرة «صنايعيين» يصلحون ما أفسده.. والسائق الذي يختلق أزمة مرور لأنه يظن نفسه أذكى من الآخرين، وغيرهم، وغيرهم.
سيظن البعض أن المشكلة في ثقافتنا المحلية وفي النظام السياسي. تعالوا لنأخذ جهة غير حكومية، الـNGO’S، مشغّلوها أجانب، من دول «متحضرة»، ويمثلون ثقافة «ما بعد الحداثة»، مجالات عملهم هي: تعليمنا الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة، ومكافحة الفقر ودعم المشاريع الصغيرة، ونشر ثقافة التسامح والتعايش، ومكافحة الفساد، وحماية الطفولة، وقضايا ذوي الإعاقة، وتطوير التعليم، وابتكار أساليب حديثة في التربية.. وهي قضايا مهمة ورائعة، ولكن منذ أن غزت تلك المنظمات بلادنا لم نرَ أي تطور أو تغير إيجابي ولا في أي مجال من مجالات عملها. وإذا كانت هناك قصص نجاح أو منجزات حقيقية، هنا وهناك، فهي بسبب وجود أشخاص مخلصين ومثابرين، وهي حالات محدودة على أيّ حال.
الأمر ذاته ينطبق على بعض الشركات والمؤسسات الدولية والبنوك وشركات التأمين وغيرها، فنجد أنَّ ما يهم «المشغّلين» الأجانب تسويق صورة دعائية عن مؤسساتهم (بروبوغاندا)، أما الأهداف المعلنة فهي آخر ما يهمهم، لذلك يختارون مدراء إقليميين يشبهونهم، برواتب خيالية، أشبه ما تكون شراء ذمم، ليصبح همّهم الأول والأخير العمل لخدمة المؤسسة وأصحابها، وليس خدمة المجتمع.. لذلك لا يحدث التغيير المنشود.
وفي هذا السياق، يمكن استعراض عشرات الأمثلة عن الكسل الذهني، وعدم إتقان العمل. لاحظ أنني لم أتحدث عن الغش والاختلاس والنصب والاحتيال، فالحالات السابقة لم تغش ولم تسرق حرفياً، أتحدث عن الخمول، وغياب روح الإبداع، وعن تبلّد المشاعر، واللامبالاة، وعدم الاكتراث، وغياب الضمير، وضعف الانتماء، وعن الجهل، والغباء، والغيرة والحسد والأنانية والأمراض النفسية. وهي حسب القانون ليست جرائم، ولا عقوبة عليها، مع أنها سبب نكباتنا ومصائبنا كلها.
حالات الإبداع والابتكار والتفكير خارج الصندوق، وبطرق إبداعية، نراها فقط في أساليب الغش والنصب والاحتيال، ونصب المكائد والنيل من المنافسين، والتي يقف لها الشيطان احتراماً وانبهاراً.
من يظن أن إسرائيل متفوقة علينا لأنها قوية عسكرياً ومدعومة سياسياً يقع في وهم كبير، تفوقت علينا أيضاً - وهذا لا يقل أهمية - في التنظيم والعمل والصناعة والزراعة والتكنولوجيا والبحث العلمي.
وإذا جاز لي اختزال عوامل تطور اليابان وألمانيا بالذات، وأسباب نهضتهما، أختصرها في أمرين: روح الانتماء للبلد، والإخلاص في العمل وإتقانه.. وهذا ما نفتقده بشدة.
طبعاً، الصورة ليست بذاك السوء، فهناك دوماً لدينا حالات إبداعية في شتى المجالات: معلمون متفانون، وأطباء بارعون، ومهندسون مبدعون، وعمال مهرة، وصنّاع أكْفاء، وموظفون مخلصون، وأدباء متميزون، ومفكرون شجعان، وفنانون ومبتكرون.. لكنهم للأسف أقلية، وإذا لم تقمعهم السلطات، أو تحيّدهم مؤسساتهم، ينبذهم المجتمع، لأنهم غالباً مختلفون، و»شاذون» عن الموروث، أو على الأقل لا يلاقون التشجيع والتقدير.
صحيح أن عدم إتقان العمل، وضعف روح الانتماء، وغياب المبادرة والمثابرة، لها أسباب موضوعية عديدة، منها مثلاً، تفشي «نظام التفاهة»، وهو نهج مُتبع في كل أنحاء العالم، يعمل على إقصاء حالات التميز والإبداع، واستبعاد الكفاءات والأذكياء جداً واستبدالهم بمحدودي الذكاء وضعاف النفوس؛ لأنهم أسهل انقياداً ويتبعون النظام السائد بحرفية ودون اعتراض. (راجع مقالتي ‹›نظام التفاهة››، «الأيام»، 23-6-2021)، ولكن هذا لا يمنع أن الأكثرية «تشلفق» شغلها، دون أن تهتز لها قصبة.