وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - يتزايد انكشاف إسرائيل على حقيقتها كدولة «أبارتهايد» استعمارية استيطانية، لدى منظمات ونخب أكاديمية وحقوقية وفنية وسياسية عالمية، وشيئا فشيئا بدأت هذه القوى تطرح مهمات الضغط والعزل وممارسة العقوبات على دولة المستعمرين من أجل فرض التراجع عليها، وممارسة الضغط على الدول التي تمارس دور التغطية على انتهاكات وجرائم دولة الاحتلال، وتساعدها على الإفلات من العقاب.
عوضا عن طرح قضية الاحتلال والسيطرة على شعب وإخضاعه لنظام فصل عنصري على طاولة النظام الدولي بحثا عن حل سياسي للصراع المتفجر، يتم غض النظر عن الاحتلال كسبب لمفاقمة الصراع، والبحث في خفض الصراع من خلال مهدئات ثبت فشلها مرة بعد أخرى، وعبر إبرام صفقات ما يسمى السلام مع دول عربية تابعة وذات موقع هامشي في صراع الشعوب ضد الاستعمار القديم والجديد بما في ذلك الاستعمار الصهيوني.
المسألة الأخطر في عملية التحويل هي تفكيك الحركة السياسية ومحاولة استئناس مستويات منها عبر إيجاد مصالح خاصة مشروطة باستجاباتها لسياسات المستعمرين، فمنذ قبول دولة المستوطنين الدخول في عملية سياسية مع منظمة التحرير أوائل تسعينيات القرن العشرين، وضعت جانبا مسألة حق تقرير المصير والقانون الدولي ومخرجاته من قرارات تدعو إلى إنهاء الاحتلال والاستيطان، وتعاملت بمنطق استعماري يرغب أصحابه في إبرام حلول أخرى، تتولى فيها السلطة الجديدة سيطرة جزئية على الشعب الفلسطيني، وتوفير الأمن لدولة المستوطنين، مقابل إضفاء الشرعية عليها كسلطة معترف بها مباشرة من دولة الاحتلال ومن النظامين العربي والدولي، شرعية تسمح بنمو مصالح للسلطة الجديدة بمعزل عن إنهاء الاحتلال ونيل حقوق شعبها في التحرر والاستقلال.
العملية السياسية المتحركة قليلا والمجمدة معظم الوقت كانت تسمح بأكثر من تفسير، اعتقد ياسر عرفات ومن خلفه حركة فتح أن العملية السياسية المؤيدة والمدعومة عربيا ودوليا تسمح بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة على أراضي الضفة والقطاع والقدس، مغفلا دور موازين القوى السياسية والاقتصادية، فمنذ اتفاقات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية ومع بدء العمل باتفاق أوسلو لم تكن الإمكانات العربية جزءا من موازين القوى، فقد استخدم اتفاق أوسلو كجسر لتطبيع العديد من الدول العربية سرا وعلانية مع دولة الاحتلال بمعزل عن إنجاز حل سياسي للقضية الفلسطينية، وتوج هذا المسار بالاتفاقات الإبراهيمية إضافة إلى انضمام السودان والمغرب، وراهنا تتكثف مساعي إدارة بايدن لإبرام اتفاق سعودي إسرائيلي. يلاحظ أن الاتفاقات بالمفهوم الإسرائيلي تساهم في تثبيت الاحتلال للأرض الفلسطينية وتعميقه بالاستيطان، وبالتنكر المطلق للحقوق الفلسطينية، وان الاتفاقات بمفهوم الأنظمة يعني الانسحاب من دعم القضية الفلسطينية عمليا مع الاحتفاظ برتوش لا تكفي للحفاظ على ماء الوجه.
نجحت السياسات الإسرائيلية في إقناع السواد الأعظم من الشعب الفلسطيني بالانفضاض عن مشروع حركة فتح وسلطتها الداعي لإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، والذي قامت السلطة على أساسه. حدث الانفضاض بعد أن قوضت دولة الاحتلال مقوماته على الأرض وأزالته من المشهد السياسي الإسرائيلي والدولي والإقليمي، فضلا عن إزالته من المشهد السياسي الإسرائيلي.
التمدد الاستيطاني بالبؤر والتطهير العرقي في القدس والأغوار والمناطق المصنفة «ج»، والنهب وقرصنة أموال المقاصة، والحصار والأزمة الاقتصادية الحادة، المترافق مع إغلاق الأفق السياسي بإحكام، كل ذلك أحدث إحباطا وخلخلة في الاستجابات الفلسطينية. فمن المنطقي والحال بهذا السوء، البحث عن خيارات أخرى، بعض النخب انتقلت إلى خيار الدولة الواحدة معيدة إنتاج يوتوبيا جديدة قديمة منفصلة عن الواقع وتحولاته، وخرجت إلى السطح ظاهرة عمليات مقاومة فردية، واحتجاجات شعبية واسعة في مواقع احتكاك مع المستوطنين وقوات الاحتلال ردا على سياسة التعنت والقهر الإسرائيلية.
كان عنوان التغيير في المزاج هو مقاومة الاحتلال، التكتيك الذي اتبعته حركة حماس وفصائل أخرى منذ العام 1995، لكن هذا التكتيك لم يرق إلى استراتيجية لها قوانين ووعي ينقل الفئات الشابة من حالة العفوية ورد الفعل إلى الفعل، ويشرك فئات واسعة عبر تنظيم طاقاتها الثورية. أخفقت استراتيجية الحل السياسي التفاوضي، ولم يجر الانتقال إلى استراتيجية مقاومة بمختلف أشكالها، في الوقت الذي تؤيد فيه النسبة الأكبر من المواطنين الانتقال إلى المقاومة - بحسب استطلاعات الرأي والاحتجاجات الشعبية على الأرض.
موضوعيا، هناك مصلحة إسرائيلية في منع حل سياسي يؤدي إلى إنهاء الاحتلال والاستيطان، ويؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية، وعودة اللاجئين. وبالقياس مع قانون القومية وبرنامج حكومة نتنياهو بن غفير سموتريتش، ومنظومة القوانين ومشاريع الاستيطان، يلاحظ أنه لا مكان لدولة فلسطينية أو شبه دولة، ولا لأي مستوى للحقوق الفلسطينية المعرفة في الأمم المتحدة عبر مئات القرارات. النتيجة لا تقتصر على إحباط حل سياسي، وإنما أدت إلى إضعاف السلطة والقيادة الرسمية من جهة، والى تقوية سلطة حماس كتحصيل حاصل في الجهة الأخرى. فسر إيهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق ذلك بالقول، «اتخذت حكومة نتنياهو خطوات لتقوية (حماس) وإضعاف السلطة، لإقناع عامة الاسرائيليين بأنه لا يوجد شريك فلسطيني» جروزاليم بوست 4/11/ 2012. وجاء في موقع العربية 11/ 12 / 2018 ما يدعم قول أولمرت: «يجمع خبراء وسياسيون على أن إسرائيل تسعى إلى تطبيق سياسة (فرق تسد) بين الفلسطينيين من خلال تعزيز قوة (حماس) وإضعاف السلطة». ويدعم عوفر شيلح في يديعوت 7/7/2023 تحت عنوان الحملة العسكرية تضعف السلطة وتعزز «حماس»، بالقول: «كل حكومات إسرائيل في السنوات الأخيرة عملت على إضعاف السلطة وتعزيز (حماس) في سياق تصفية إمكانية التسوية».
وفي المقابل، عندما تعقد حكومة نتنياهو اجتماعات لتعزيز السلطة، أو عندما يصرح وزراء وجنرالات إسرائيليون «أن من مصلحة إسرائيل بقاء السلطة» فإن النتيجة العملية هي إضعاف السلطة أكثر من أي وقت آخر لأنهم يتعاملون مع السلطة كأداة من أدوات الاحتلال وهم بذلك يفقدونها ما تبقى من ثقة شعبها. هذا النوع من الدعم ينطبق عليه مثل «ومن الدعم ما قتل». إن قادة دولة الاحتلال يعرفون معنى أقوالهم وهم يريدون تحويل السلطة أو أجزاء منها إلى أداة تابعة للاحتلال وفي مواجهة شعبها. التقدير نفسه ينطبق على حركة حماس، فالحرص الإسرائيلي على بقاء سلطة «حماس» في غزة، والسماح بتمرير المنحة القطرية – 30 مليون دولار شهريا - يرمي إلى فصل القطاع عن الضفة، وشطب مليونين وربع مليون مواطن من حسبة الخطر الديمغرافي، لنظام «الأبارتهايد»، وضبط الأوضاع الأمنية وعدم خروجها عن السيطرة، والأهم، لمنع الحل السياسي.
الموقف الإسرائيلي المزدوج من السلطتين له نتائج وخيمة فالبوح بتقوية السلطة يعني مسخها، وتعزيز «حماس» دون قول ذلك يعني نزع الثقة من «حماس» وتحويلها إلى أداة للوصول إلى سلطة بلا سيادة ومقومات، وتستخدم سلطات الاحتلال أسلحة أخرى في تأجيج الصراع على السلطة والسيطرة بين «فتح» و»حماس». فأثناء الانتخابات عندما تعتقل سلطات الاحتلال مرشحي «حماس» يعني أنها ترغب في إنجاح قائمة «حماس»، وابتزاز السلطة ودفعها نحو الخضوع لشروطها. وفي المحصلة فإن الهدف الإسرائيلي هو تفكيك الحركة السياسية ودفعها إلى تغليب التناقضات الثانوية فيما بينها على تناقضها الأساسي مع الاحتلال، وتفكيك وحدة الشعب الوطنية، وكل ذلك من أجل تحقيق الأهداف الاستعمارية الإسرائيلية. وللحديث بقية.