مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - لم يكتفِ الفكر الصهيوني بتركيب رواية قائمة على اختراع قومية واستيطان أرض فلسطين وبناء نظام كولونيالي عنصري على أنقاض السكان الأصليين – الشعب الفلسطيني -، وإنما رفض أيضاً كل محاولة لنقد الرواية الصهيونية وكل اعتراف بالأخطاء وكل رفض للتوليفة الصهيونية المتناقضة مع البحوث والمكتشفات العلمية.
فقد لاحظ زئيف شتيرنهيل/ في كتابه الأساطير المؤسسة لإسرائيل / القومية والاشتراكية وقيام الدولة اليهودية، «الانفصال المسيطر في الجامعات بين التاريخ اليهودي والتاريخ العام، والتعامل مع التاريخ اليهودي كركن منفصل، هذا الانفصال قاد كثيراً من المؤرخين الصهاينة إلى عزل أنفسهم داخل جيتو فكري، ما ولد أساطير تداهن الهوية الجمعية الإسرائيلية. انفصال لا يوجد له سند فكري ولا واقعي، لكنه عكس الرغبة في ابتداع خصوصية حصرية منعزلة، وشل أي حس نقدي وكل محاولة للتحليل المقارن.
ضمن هذا المفهوم يُنظر لأي باحث إسرائيلي يُلقي الضوء على حقائق مخالفة للأساطير المؤسسة لإسرائيل ويقدم تفسيرات مخالفة لها، باعتباره عدواً للشعب الإسرائيلي..
ويضيف شتيرنهيل: «ثمة قطاعات واسعة من المؤسسة الثقافية والسياسية الإسرائيلية تشعر بخوف من أي نقد للأفكار التي تم قبولها خلال فترة طويلة لأن مثل هذا النقد سوف يلحق أضراراً بأسس الفكر الصهيوني، لا سيما الحق التاريخي الأبدي للشعب اليهودي في «أرض إسرائيل»، الذي يتعارض مع بناء نظام سياسي اجتماعي علماني ليبرالي جوهره فصل الدين عن الدولة».
رفضت المؤسسة الإسرائيلية ومنظروها من مفكرين وأكاديميين كل محاولة لتقديم رواية مختلفة عن روايتها، كما رفضت كل الأبحاث التي تقدم بها مؤرخون جدد أمثال إيلان بابه، وشلومو ساند، وآفي شلايم، وبني موريس، وسمحا فلابان، وزئيف شتيرنهيل، وتوم سيغف، وباروخ كيمرلينغ.
هؤلاء وغيرهم كانوا جزءا من تيار ما بعد صهيونية وعلم الاجتماع الجديد الذين قاموا بمراجعات فكرية، وطرحوا أسئلة وأعادوا قراءة الصراع العربي والفلسطيني - الإسرائيلي بلغة مستقلة عن الأيديولوجيا الصهيونية السائدة، وتوقفوا عند الطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيوني، وذلك استناداً للوثائق التي جرى الكشف عنها عبر أرشيفات إسرائيل وبريطانيا وفرنسا والأمم المتحدة، وبناء على مجريات الصراع والواقع الناجم عن عملية التحرر الفلسطيني، وبفعل الرواية التي قدمها مؤرخون ومفكرون فلسطينيون وعرب، رواية نقيضة للرواية الصهيونية ومسلماتها وأساطيرها. هذه العوامل ساهمت في زعزعة الثقة بالرواية الرسمية الإسرائيلية وفتحت الأبواب أمام أسئلة إشكالية.
يقول إيلان بابه في مقالة بعنوان المؤرخون الجدد (نشرت على موقع مواطن/ جامعة بير زيت): أظهر المؤرخون صورة تاريخية لحرب 48 تُناقض بشكل صارخ تلك التي تصورها الأنظمة التعليمية والسياسية في إسرائيل، وتُناقض الذاكرة الجمعية الإسرائيلية حول حرب 48.
تحدى المؤرخون الادعاء التاريخي السائد بأن المجتمع اليهودي في فلسطين كان تحت خطر الإبادة عشية حرب 48. في الوقت الذي كشفت فيه الوثائق عن عالم عربي منقسم وضعيف عسكرياً – وواقع الحال تابع سياساً - ولا يوجد تهديد عربي وفلسطيني للوجود اليهودي - كان التهديد عكسياً - كان الشعب الفلسطيني مهدداً وجودياً.
وكشف المؤرخون حقيقة الطرد والتطهير العرقي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني خلافاً للرواية الإسرائيلية التي تقول إن الفلسطينيين خرجوا بمحض إرادتهم استجابة لنداء القادة العرب. فقد بينت الوثائق أن نصف اللاجئين اقتلعوا قبل 15 أيار 48 قبل الحرب، وكشفت إصرار القيادة الإسرائيلية على التطهير العرقي سواء قبل الفلسطينيون خطة التقسيم أم لا. وأشاروا إلى محو القرى العربية المهجورة وبناء مستوطنات على أنقاضها وما يعنيه ذلك من رفض السلام أو إبرام حل سياسي مع الشعب الفلسطيني.
كشف المؤرخون أيضاً استناداً لوثائق الأرشيف عدم صحة الادعاء الإسرائيلي حول الرفض العربي لمبادرات السلام الإسرائيلية، فلم تكن إسرائيل تسعى إلى السلام وكان عدد كبير من القادة العرب على استعداد للتفاوض معها.
في المقابل، أثّر المؤرخون بشكل طفيف على المناهج في المدارس والنظام التعليمي وصناعة السينما ووسائل الإعلام الثقافية الأخرى. لكن بعد انتفاضة 2000 بدأت عملية عكسية، فقد اختفى اليسار الصهيوني وتراجع تأثير التأريخ الجديد، وأصبحت الأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام الثقافية أكثر صهيونية وترك العديد من الباحثين الأوساط الأكاديمية أو هاجروا بعد تعرضهم إلى انتقادات واسعة.
ولم تظهر الغالبية العظمى من اليهود أي تعاطف مع الفلسطينيين في 48 ولم تقبل بمساءلة إسرائيل على انتهاكاتها وجرائمها.
التناقضات التي تحدث عنها المؤرخ الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش احتدمت في مدى زمني أقصر من المتوقع، وبما لا ينسجم مع الرعاية الفائقة والدعم السياسي والعسكري الذي يغدق على دولة إسرائيل من الإدارات الأميركية ومن دول أوروبية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ولا ينسجم مع انهيار النظام العربي واندفاع معظم دوله لإقامة علاقات وأشكال من التعاون والتحالف مع دولة الاحتلال.
أسبقية حضور الجيش المحترف ودولة الجيش قبل وجود الشعب واعتماد الوعد الإلهي في تشكيل وبناء شعب، في ظل الدعم المالي والعسكري والسياسي بما في ذلك وضع دولة إسرائيل فوق القانون.
العنصر الأهم في تناقضات النشأة هو وجود شعب أصلاني مرتبط تاريخياً بوطنه كان محوه شرطاً للنهوض بالمشروع الصهيوني، وكانت عملية محوه العاثرة تؤجج التناقضات.
لم يكن التطهير العرقي شاملاً، ولم يفلح الحكم العسكري في السيطرة على من تبقى، ولم يؤدِ إنكار وتجاهل وجود شعب وتجاهل جريمة التطهير العرقي والنكبة التي صنعها المستعمرون الجدد في سلب الحضور الفلسطيني بمستوياته المتقدمة والمتأخرة، وطالما بقيت القضية الفلسطينية دون حل سياسي عادل سيبقى الأمر على حاله.
الإنكار والتجاهل المترافق مع الحرب المتواصلة منذ النكبة وحتى الانتفاضة الوطنية الكبرى، والاستئناس والتقاسم الوظيفي عبر أوسلو، وخفض الصراع وتقديم السلام مع الدول التي لم تخض أي حرب على السلام مع قطب الصراع الدائم، وتفكيك المكونات عبر جدار الفصل العنصري وبوابات الأمن الإلكترونية ومئات الحواجز العسكرية، كل هذا وغيره لم يؤدِ إلى النتائج المرجوة.
كان التجاهل والرفض الإسرائيلي لحل القضية الفلسطينية عاملاً تتفق معه الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين.
إلا أن الانقلاب القضائي المترافق مع صعود الكهانية واليمين الديني والقومي المتطرف، دفع بعض النخب - أقلية - إلى عزو ذلك للاحتلال والسيطرة على شعب آخر. أو كما يقول شلومو ساند في مقال بعنوان «لن يكون في إسرائيل ديمقراطية مستقرة دون الفلسطينيين» (هآرتس).
لقد سمم الاحتلال أكثر فأكثر قواعد الأخلاق الإسرائيلية التي كانت هشة منذ البداية، لن تقوم قائمة للديمقراطية الليبرالية دون المساواة مع الفلسطينيين... للحديث بقية.