وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - موجة حر شديدة تجتاح البلاد، وكأنَّ الشمس قعدت لنا بالمرصاد، البعض ممن أيقن آخرته يقول: "الله يعينّا على جهنم".. هذا الحر حسب وضاح زقطان "خطر على السلم الأهلي، وعلى العلاقات الشخصية"، فلا أحد يطيق الحديث مع الآخرين، والمعظم متأهب لافتعال أي "طوشة"، حتى لو دون سبب، والبعض مال تحت وطأة الحر للاعتزال، مستسلماً لهواء المكيف أو لبرودة نسمة تبثها مروحة.. العمّال يبحثون عن أي بقعة ظل، وينتظرون بفارغ الصبر انتهاء يومهم الشاق.. الأسرى في سجون الاحتلال ومع حرمانهم من أي وسيلة تهوية، يئنون من الحر اللاهب، ويتقلبون على "أبراشهم" في ليل طويل، مشبع برطوبة لزجة.. في غزة تأتي الكهرباء متقطعة أربع ساعات أو أكثر قليلاً، قد تأتي ليلاً أو نهاراً، وأثناء انقطاعها تتضاعف معاناة من ليس بوسعهم تشغيل مولّد خاص، وما أكثرهم.. الغالبية تهرب للبحر (وحدهم الذكور من يستفيد منه) والكل يبحث عن نسمة طرية، قلما تهب.. ربما هذا هو الجحيم.  
لم يعد الصيف محتملاً كما كان في سالف الزمان، لكنه يظل موسم التين والصبر والأعناب، وموسم التزاوج والسهرات وعودة المغتربين، وحفلات التخرج والأعراس.
صالات الأفراح كلها محجوزة مع أن أسعارها فلكية، ومعها تزدهر الأعمال المرتبطة بها؛ دي جي، تصوير، حلويات، زينة، صالونات تجميل.. وهذه الفرص يتم استغلالها بلا رحمة.   
مع إعلان نتائج التوجيهي سنشهد كما كل عام هجوماً شاملاً ومكثفاً على سماء الوطن عتاده الألعاب النارية والمفرقعات، وكأنَّ الناس تفرّغ غضبها بدوي الانفجارات وتوهج الأضواء.. بعدها سيتدفق عشرات الآلاف من الطلبة إلى الجامعات، وأغلبهم سيدرس تخصصاً لا رغبة له به، أو لا يعرف عنه شيئاً، وسيتخرّج من نفس الجامعات ألوف أخرى، ليتقابلوا وجهاً لوجه مع شبح البطالة.
وللدقة، هذه البطالة لمن يبحث عن فرصة عمل محترمة، يستطيع من خلالها بناء "كارير" مهني، ومستقبل معقول، أو لمن يريد العمل في تخصصه فقط.. الشبان الصغار بوسعهم إيجاد فرصة عمل بسهولة، إذا كان هدفهم تأمين مصروفهم اليومي، وحتى لا يظلوا عالة على ذويهم، في مدن الضفة الغربية (خاصة رام الله) سيجدون مئات الفرص للعمل في مطاعم، أو فنادق، أو مصانع، أو محال الملابس والمولات.. برواتب زهيدة أقل من 2000 شيكل، وساعات عمل طويلة، بعضهم يرفض أن يتم استغلاله بهذه الطريقة، ويفضل المكوث في البيت وانتظار فرصة أفضل، وبعضهم لا يمتلك ترف الخيار.
في قطاع غزة، لا تتوفر مثل هذه الفرص، بل إن العامل يكد عشر ساعات على الأقل مقابل 20 شيكلاً.. وآلاف الخريجين يتآكلون ذاتياً ويحترقون بصمت، وهم يرون أيامهم تنقضي بلا طائل، وبلا أمل ولا مستقبل.
موظفو السلطة يتقاضون 80% من رواتبهم، وما يقبضونه سيذهب فوراً لسداد قرض، أو لدفع فواتير، والقليل المتبقي سيتحايلون به على مكر الحياة ومتطلباتها.. الأسعار في صعود مستمر، والرواتب تراوح مكانها، بل تتآكل قيمتها، وغلاء تكاليف المعيشة جحيم آخر.. العديد من الموظفين ينتظرون أي يوم عطلة أو يقتنصون من أيام إجازاتهم للعمل في الداخل، أو في أي دكان أو مصلحة خاصة.. حتى لو كان الزوجان يعملان معاً، فهما بالكاد يتدبران أمرهما.
الصيف جحيم الفقراء والمشردين واللاجئين، تخيل نفسك بعد مشوار طويل، أو ساعات من العمل المضني تعود إلى بيتك، قد يكون كوخاً من الصفيح، أو خيمة، فلا تجد مروحة تنعش روحك وتعيد لجسمك توازنه، ولا تجد حتى شربة ماء بارد، حتى لو كان لك بيت معقول تخيله بلا كهرباء.
تجول في الأحياء الشعبية المكتظة، أو في أحد المخيمات البائسة، ستجد الأهالي يتسامرون في الأزقة ويتحايلون على الحَر، وستجد شباناً يمضون ليالي مقمرة وأخرى معتمة وهم ينتظرون الفرج.
في الصيف أيضاً تنشط أعمال البناء، ويرغب الكثيرون في إجراء أعمال صيانة وتجديد في منازلهم، وهنا ستواجه معضلات من نوع آخر؛ إذا احتجتَ حِرفياً عليك حجز موعد قد يمتد لأسابيع، ومن النادر أن يلتزم الحِرفي في موعده، وعندما يحضر ما أن يباشر في العمل حتى تنهال عليه المكالمات العاتبة على تأخره، والمطالبة بحضوره على الفور، ثم قد يطلب منك "زرادية كبس" أو مفتاح نمرة 10، وكل العدة التي بحوزتك عبارة عن شاكوش ومفك، وإذا سألته لماذا لم يحضر معه عاملاً، يجيبك بأنَّ الشبان يستنكفون عن العمل، فتعطيه الحل السهل: "زيادة الأجر اليومي للعامل"، فيجيبك ببلاهة "ما بتوفّي معنا"! ينهي عمله في نصف ساعة، ثم يطلب 300 شيكل، وأنت لا تعرف ماذا فعل، ربما غيّر جلدة الحنفية، تدفع صاغراً؛ فليس بوسعك الاعتراض.
في الصيف أيضاً تزداد أزمات المرور، خاصة مع ضيق الشوارع وكثرة الناس، ويغدو أي مشوار ضرباً من المعاناة، فلا المشاة يطيقون السائقين، ولا السائقون يطيقون المشاة، ولا حتى أنفسهم، وكلٌ يعتقد جازماً أنه على حق، وأنّ الشارع ملكه، وأنه وحده المستعجل، فتقع الحوادث، وتزداد "الطوش".  
كما يدفع الحـرُّ بقية المخلوقات للبحث عن مناطق أبرد وأرطب؛ فتخرج الأفاعي والعقارب والحشرات الزاحفة وتقترب من البيوت أكثر، وهو الموسم المفضل للناموس الذي يحيل الليل إلى كابوس.. وأنا من دعاة انقراض هذه الكائنات المرعبة، وليتدبر التوازن البيئي أمر نفسه.. أما القطط والكلاب والعصافير وسائر المخلوقات اللطيفة، فعلينا أن نكون رحماء معها، ونوفر لها شربة ماء على الأقل.
باختصار، رغم كل بلاوي الصيف، ومهما اشتدت الحرارة، لا تتخلَّ عن إنسانيتك.