وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - مضى على صدور كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو 261 عاماً، وما يزال يحتفظ بقيمته الأدبية والفكرية. ويعامل كمرجع أساسي هام برغم مرور زمن طويل حافل بتغيرات هائلة في بنية المجتمعات البشرية. وكان روسو قد قدم مفهوماً للسيادة والقانون والحق والعدالة والإرادة العامة وعلاقة الدولة بالمواطن. بقي هذا المفهوم يفعل فعله، تارة يتطور وأخرى ينتكس. ولكن مع حدوث تحولات في علاقات القوة كان العقد الاجتماعي يحتاج الى إعادة بناء وتطوير وصياغة. أكثر الفترات التي جرى فيها العودة لعقد روسو هي الفترة الراهنة التي تغير فيها العالم بإيقاعات سريعة، على وقع الثورة الرقمية، ثورة المعلومات والاتصالات. كان تغيراً نحو الأحسن في مجال العلوم والمعارف والتكنولوجيا، وتغيراً نحو الأسوأ في قضايا اجتماعية، حيث جرى إقصاء أعداد متزايدة من العمال والطبقة الوسطى من النظام الاقتصادي الاجتماعي، وجرى التراجع عن الرعاية الاجتماعية. فمن جهة فرضت الليبرالية الجديدة وتشكيلاتها المهيمنة وتائر عالية ومتسارعة من الربح ساهمت في إقصاء الطبقات العاملة والمتوسطة. ومن جهة اخرى فإن الدولة المستبدة في العالم الثالث لا تلبي حقوق مجتمعاتها الأساسية في مجالات التعليم والصحة والعمل والسكن والأمن والتنمية الانسانية والحريات العامة والخاصة والمحاسبة والمساواة أمام القانون. الى المستوى الذي يمكن القول معه ان السواد الأعظم من الشعوب لا يحظى بأبسط الحقوق وأصبح خارج اهتمام الدولة التي تنصلت من مهامها الاساسية، في الوقت الذي ازداد فيه الاستبداد، وتتالت الانفجارات الشعبية على شكل ثورات وانتفاضات وعصيانات، وفي الوقت الذي استبيحت فيه قواعد التعامل مع البيئة ملحقة أضراراً ومخاطر تدفع ثمنها البشرية. وفي المحصلة أدى ذلك إلى انفراط العقد الاجتماعي في العديد من البلدان. وما يعنيه ذلك من انفراط ما هو مشترك بين الدول والشعوب، وطغيان علاقات سيطرة جديدة قائمة على النهب والهيمنة والاستبداد والقوة العارية.
أتخمت الشعوب العربية بمشاكل مستعصية وبانسداد فكري وسياسي وطغيان شعبوية ممولة تحرف مساعي التغيير وتحول الطاقة الإيجابية للتغيير الى طاقة سلبية تكرس الاستبداد. أصبحت الحياة العامة والمصالح المشتركة للسواد الأعظم بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يعيد بناء النظام الاجتماعي والسياسي، هذا ما عبرت عنه اصوات عديدة ومتزايدة تتحدث في مطالبتها بعقد اجتماعي جديد.
شعوب اصبحت خارج العقد الاجتماعي
"إن بعض دول الشرق الاوسط قد تجد نفسها على وشك انهيار اقتصادي حاد ما لم تبدأ في إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية وفي صياغة عقد اجتماعي جديد ضمن عملية معقدة وليست مستحيلة، عقد شامل للجميع وعادل وقابل للتنفيذ". هذا ما قاله مروان المعشر موضحاً، أن العقد الاجتماعي في الأردن استُنفِذ وداعياً إلى ضرورة إيجاد عقد اجتماعي آخر، منوهاً الى محاولة تجديد العقد في العام 1988عندما شكل الملك حسين لجنة وطنية لكتابة عقد اجتماعي جديد بين كافة مكونات المجتمع، وأدى هذا الجهد الذي شاركت فيه كافة الاطياف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الى ما دُعي بالميثاق الوطني الاردني الذي جدد قواعد العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد لكنه لم ُيثبّت رسمياً في الدستور الأردني.
وفي بداية ثورة 25 يناير 2011 خرجت اصوات مصرية تطالب بعقد اجتماعى جديد لأن الواقع لا يحقق الأمان للسواد الأعظم من الناس، ولا يحقق الأمانى للغالبية العظمى. وأصبحت الأولوية القصوى راهناً هي العمل على إعادة توحيد مصر وتثبيت دعائم السلام الاجتماعي من خلال وضع عقد اجتماعي ثقافي ووطني جديد. وأعاد الروائي علاء الأسواني التأكيد على حاجة الشعب المصري الى عقد اجتماعي في غياب تحمل الدولة لمسؤولياتها في مجالات التعليم والصحة والسكن والعمل والامن والمساواة أمام القانون. واعتبر الاسواني ان 85% من المصريين اصبحوا خارج العقد الاجتماعي.
وبعد مرور قرابة عقدين من فشل الدولة، يبدو أن العراق لم يعد قادراً على النهوض من قاع الأزمات في ظل استمرار نظام طائفي، وما زال يحتاج الى إعادة صياغة عقده الاجتماعي والسياسي لانتشاله من محاولة اعادته الى حمام الدم. العراق بحاجة الى دولة تستند الى دستور – عقد اجتماعي سياسي كضمانة حقيقية للحقوق والحريات وتجاوزاً لخلل بنيوي في المنظومة السياسية التي حكمت البلاد منذ الغزو الاميركي.
وفي لبنان أسس الميثاق الوطني لعام 1943 لاختلالات لاحقة، لأنه وزع السلطة بصيغة محاصصة على أساس ولاء طائفي، وليس على قاعدة مواطنة ضامنة لحقوق وواجبات الجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية والعشائرية، ولم تتوصل في اتفاق الطائف (1989) إلى تعاقد جديد يجُبُّ روح "الميثاق الوطني"، ويؤسس واقعاً جديداً، بل حافظ على كل ما هو جوهري في أحكامه، كشفت فاجعة انفجار مرفأ بيروت، عن حاجة لبنان إلى صيغة جديدة للعيش المشترك، أفقياً بين مختلف مكوناته الاجتماعية، وعمودياً بين مجتمعه وكامل مؤسساته الدستورية، ونخبه السياسية والاقتصادية والمالية.
وأثناء الانتفاضة السورية راهنت بعض النخب على انتظام سورية في عقد سياسي واجتماعي فيه الحد الأدنى من العدالة لشعبها في حالة انتصار الانتفاضة" وتحدث عمر قدور عن الافتقاد لمحاولات حقيقية لإنتاج معنى سوري مشترك بعد 10 سنوات لاحقة على بدء الانتفاضة.
وفلسطين هل تشكل استثناءً؟ يقول يزيد صايغ: استطاع قادة الفصائل أن يربطوا شتاتاً موزعاً على أربعة أقطار عربية رئيسة، وثماني عقائد سياسية، وفي بلدان أبعد في الخليج، والعراق وليبيا، وفي الغرب أيضًا، ورغم ظروف صعبة ومعقدة جدًا وتجاذبات عربية ودولية عنيفة، واستطاعوا إيجاد قاسم مشترك وحد أدنى من التفاهمات حول طريقة إدارة الاختلاف فيما بينهم، وهذا يدل على أن هناك حداً أدنى من الاتفاق على الهوية، وعلى مأسسة الهوية بكيان معين، وأيضاً على وضع آليات مقبولة لتجسيد هذه الهوية، ودفع مصالحها أمام إسرائيل من جهة بالاصطدام المباشر، أو باتجاه الحلفاء أو الخصوم العرب، وأيضًا التعامل مع نظام عالمي مستقطب حول قطبين في ذلك الوقت. لم يستمر هذا الاتفاق الذي شكل عقداً وطنياً اجتماعياً وتجسد في وثيقة إعلان الاستقلال الى يومنا هذا، اصبح الواقع الفلسطيني مفككاً أيضاً وبحاجة الى عقد وطني اجتماعي جديد.