وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - باغتيالها ثلاثة شبان في الثامن من شباط العام الماضي قبل حوالي عام ونصف العام من نشطاء حركة فتح الغاضبين في حي المخفية بنابلس كانت إسرائيل تطلق شرارة مرحلة جديدة من الصدام مع الفلسطينيين في الضفة، ليس بسبب انتمائهم لحركة فتح التي يتمتع الغاضبون فيها بحرية حركة أكبر لجهة ضعف مشروعية قيادة السلطة في مواجهة أبناء تنظيمها أمام القاعدة بل لأن الاغتيال آنذاك جاء وسط مناخات كانت تتهيأ للصدام.
من جهة، كانت إسرائيل قد أعلنت على لسان رئيس حكومتها حينذاك نفتالي بينيت «مدير عام مجلس مستوطنات الضفة السابق «أن لا مفاوضات مع الفلسطينيين» قاطعا الطريق على أملهم بإنهاء الاحتلال من خلال التسوية المترنحة منذ ثلاثة عقود، وكان ذلك يترافق مع مشروع استيطاني يسارع الزمن للاستيلاء على الضفة الغربية.
ومن جهة أخرى، كانت السلطة تزداد ضعفا وتتراجع سيطرتها على مدن شمال الضفة. وكان هذا الضعف ناتجا عن أسباب تتفاعل منها أزمات اقتصادية بعد أزمة «كورونا» وما خلفته من أعباء اقتصادية مست باقتصادات دول كبرى، أو سياسية لانعدام المشروع السياسي بفقدان دورها السياسي وحصر العلاقة الإسرائيلية معها مع بني غانتس وزير الدفاع فقط، أو لجهة أخطاء ارتكبتها منها قضية مقتل نزار بنات وصفقة اللقاحات وإلغاء الانتخابات قبلها بأشهر.
مناخات الإحباط من المحيط العربي كانت تترك ذيولها في الضفة الغربية، فهناك محيط عربي آخذ بالتقارب مع إسرائيل باندفاعة سقط منها الملف الفلسطيني وبدت تلك الدول المطبعة حديثا تتصرف بخفة زائدة أحدثت غضبا لدى الفلسطينيين بل وأطلقت تلك الدول بعض أدواتها ونشطاء التواصل الاجتماعي لشتم الفلسطينيين لتبرير فعلتها، وقد تجسد هذا التطبيع بعقد منتدى النقب ودون دعوة الفلسطينيين على الأقل.
وسط تلك المناخات كان ينمو جيل جديد من الفلسطينيين الناقم على تلك الثلاثية، ويجد نفسه قادرا على الفعل وسط التراجع الفلسطيني والعربي، ويمتلك فائض غضب وإرادة ورأى نفسه قادرا على الرد ويستطيع مواجهة إسرائيل بما يملك من فائض الإرادة ويتحدى السلطة بل ويقدم منافسا لسوء الإدارة القائمة ويضع العرب المطبعين في حالة محرجة منتقما لكرامته.
ولأن السياسة لا تعرف الفراغ، ولأن الفراغ كان كبيرا وآخذا بالاتساع كان حجمه الكبير يستدعي من يملؤه، وكان هناك من تستدعيه اللحظة، وتوفرت لهذا الجيل كل عوامل الشحن القائمة والآخذ بالسوشيال ميديا كمستجد هائل في صناعة الأبطال والنجوم الذين يعبرون عن المزاج العام يدخل المنطقة في مرحلة جديدة.
تمكن الشباب في جنين ومن ثم نابلس وضع الأطراف الثلاثة في مأزق لم يكن بالحسبان سواء السلطة بوضعها وضعفها أو إسرائيل والجدل الأمني الحائر منذ عام ونصف العام أو دول التطبيع لتضطر دولة مثل الإمارات محرجة أن تواجه إسرائيل بمشروع في مجلس الأمن وتفرمل اندفاعها.
جاءت العملية في جنين تتويجا لكل ذلك. أرادت إسرائيل أن تنهي الأمر بضربة واحدة معتبرة أن جنين هي «رأس الأفعى» وأطلقت عليها عاصمة الإرهاب، تجهزت جيدا بكل ما تملكه من أذرع عسكرية وقوات للنخبة وتدريبات حرب الشوارع والطائرات والذكاء الاصطناعي ومعلومات مخابراتية وجندت ألفا ومائتي جندي للمهمة بهدف تنظيف المخيم من السلاح، وقسمت خطتها على مراحل كانت قد بدأت المرحلة الأولى بالقصف الجوي وعلى أطراف المخيم.
كان واضحا أن الشباب تحضروا جيدا لعملية، كانوا يدركون أنه يتم التحضير لها منذ أكثر من عام منذ اغتيال الصحافية بقناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة. وبما يمتلكون من مهارة وأدوات بسيطة وضعوا خطتهم لتفخيخ الأبواب والشبابيك والانسحاب، وما أن بدأت إسرائيل بالمرحلة الثانية مرحلة تنظيف البيوت حتى سقط جندي من قواتها لتدرك أن الأمر لن يكون مجرد نزهة وأن كل بيت ستدخله ستدفع ثمنا على عتبته لتعلن بشكل شبه مفاجئ تلك الليلة عن الانسحاب وأن العملية حققت أهدافها وأنها لم «تكن تنوي اجتياح المخيم» لأن الأمر ستكون له تداعياته على استقرار الحكومة فيما لو استكملت المهمة.
في جنين، جرت معركة جدية من المعارك التي سيتذكرها الفلسطينيون، فقد خرج أبناء المخيم للاحتفال ما يعني أن هذه المعركة ستترك تداعيات كبرى على حالة الصدام المتنامية. لا احد ظن أن بإمكان 300 مسلح هزيمة جيش إسرائيل المدجج ولكن أن تنسحب إسرائيل ويبقى مسلح واحد يطلق النار على قواتها فهذا يعني انتصارا بالمقاييس النسبية التي يقيس بها الفلسطينيون نجاح إرادتهم.
ماذا يعني ذلك؟ ذلك يعني أن جنين بمعركتها ستعيد صياغة الوعي الفلسطيني من جديد باتجاه ثقافة الصدام وقدرتها على التصدي والمواجهة، ستتحول نتائج جنين إلى ملهم لباقي مدن الضفة الغربية طالما أنها لم تنهزم وأعادت إنتاج أبطالها ليتحولوا إلى إيقونات وطنية برصيد تجاوز كثيرا من القادة، وسيقلدهم قادة ميدانيون في إطار المزاحمة على الفضاء العام وخصوصا أولئك الذين لم يسعفهم الحظ لإيجاد مكان للتعبير عن ذاتهم ... وستزاحم أيضا باقي الفصائل التي باتت تشعر أن الزمن تغير وأن الواقع يعيد إنتاج نفسه بسرعة شديدة .... ما قبل جنين ليس كما بعدها.