وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - في زمن صدام حسين، وحين كان طارق عزيز وزيراً للخارجية، سُئل عن المعارضة العراقية المقيمة في الخارج، فأجاب: إنهم «ليسوا معارضة، هم مجرد حفنة من اللصوص والمرتشين الذين باعوا أنفسهم للغرب».. وحينها اعترض الكثيرون على هذا الوصف، واتهموا النظام العراقي بالدكتاتورية والاستبداد.. ولمّا استلم هؤلاء المعارضون الحكم بعد إسقاط نظام صدام على أيدي الأميركيين تبيّن أن وصف طارق عزيز كان دقيقاً جداً وصادقاً جداً.  
هذا لا يعني أن نظام صدام لم يكن دكتاتورياً، ولا يعني أن كل المعارضين لبقية الأنظمة العربية هم فاسدون ولصوص.. ولكن، تعالوا لنلقي نظرة سريعة على واقع وطبيعة قوى المعارضة في الدول العربية، ومن بعدها ليصدر كل واحد حكمه فيهم.
في بداية التسعينيات فاز الإسلاميون في الانتخابات الجزائرية، فقام النظام بإلغائها، ولم يعترف بنتائجها، فجاء رد قوى المعارضة شديد العنف، ودموياً بطريقة مرعبة، وأدخلوا البلاد «عشرية سوداء» قُتل فيها مئات الآلاف من المدنيين أغلبيتهم الساحقة من القرويين الذين أرادت المعارضة معاقبتهم على موقفهم من الانتخابات وتخويف غيرهم.
وفي مصر مثّلت جماعة الإخوان أهم قوة معارضة على مدى ستين عاماً، في عهد عبد الناصر شدد خطابهم على رفض الاستبداد، والتنديد بقمع الحريات.. وفي عهد السادات ومبارك كان خطابهم الإعلامي يرتكز على رفض كافة مشاريع التسوية، وأهمها كامب ديفيد، ورفض الاعتراف بإسرائيل، ورفض السياسات الاقتصادية ورفض الاقتراض من البنك الدولي.
وحين استلم الإخوان الحكم، حاول مرسي تكريس كل السلطات بيده، وأعلن تمسكه بـ»كامب ديفيد»، والاعتراف بإسرائيل، بل وأكد العلاقة معها برسالة وديّة، وشدد على أهمية توثيق علاقاته مع أميركا، واقترض من البنك الدولي.
وعندما نشبت الأزمة السورية، وخرجت التظاهرات الشعبية المطالبة بالحرية والكرامة ومحاسبة الفاسدين وتحسين الأوضاع الاقتصادية، كانت فرصة تاريخية لقوى المعارضة لتبني المطالب الشعبية والاستمرار بالنمط السلمي للثورة، ولكنها عوضاً عن ذلك زجّت نفسها في مشاريع وعلاقات ومؤامرات خارجية تستهدف الدولة السورية، وتورطت في تحالفات مع قوى إرهابية ورجعية («داعش»، «النصرة»...) حتى حولوا جميعاً الثورة إلى حرب دموية مورست فيها أحط الجرائم وشتى أنواع اللصوصية، وتبين أن الهدف كان التخريب والدمار، في مشهد بائس تبادل فيها النظام والمعارضة الأدوار.
في ليبيا تساوقت المعارضة مع الناتو، ومشت معه في مشروع تدمير البلاد حتى آخره، ولما أسقط النظام أكملوا مشوار التخريب، فاقتتلوا، ونهبوا وسرقوا، وقسّموا البلاد وحولوها إلى دولة فاشلة.
في السودان انقلبت المعارضة بقيادة البشير على أول مشروع ديمقراطي عربي، بحجة الإصلاح والإنقاذ (1989)، ثم أكمل النظام حروبه في الجنوب، بل واستحدث حرباً جديدة في دارفور، وأغرق البلاد في الفوضى، وكانت النتيجة أزمة اقتصادية وخسارة السودان ثلث أراضيه. وحين جاءت معارضة أخرى تبين فسادها وتساوقها مع مشروع السلام الإبراهيمي، ثم انشقوا إلى قسمين يتنافسان في الفساد وعلى تقديم دور الوكيل للدول التي قسّمت السودان، وما زالت تطمع في تخريبه أكثر.  
في الأردن مثَّل الإخوان أيضاً أهم قوة معارضة منظمة، في خطابهم الشعبوي كانوا يدعون محاربة مشاريع التسوية الاستسلامية ومكافحة الفساد، ولما فازوا في أول انتخابات برلمانية (1989) بأغلبية كبيرة كانت أولى أولوياتهم «منع تقديم الخمور على طائرات الملكية»، مع تجاهل كامل لأزمات البلد الكبرى. وفي بداية ثورات الربيع العربي، ظهر حراك شعبي يريد الإصلاح والتغيير والديمقراطية بمطالب وطنية مشروعة، فتدخل الإخوان كعادتهم وانحازوا للنظام بطريقة مواربة، فتمكنوا من احتواء الحراك الشعبي، وحرف مساره، وإفراغه من محتواه السياسي واستبداله بمطالب شعبوية سطحية، موجهين الاتهام لبعض المظاهر الاجتماعية التي رأوا أنها سبب البلاء، وصرفوا الأنظار عن أسباب الفساد الحقيقية.
الشيء ذاته فعله الإخوان في المغرب، وبنفس الأسلوب الشعبوي باللعب على وتر العاطفة الدينية، وتجاهل الخصم الحقيقي، وصرف الأنظار عن الأسباب الحقيقية للأزمة، أي التحالف مع النظام والعمل على احتواء الغضب الشعبي.
في فلسطين، انقلبت «حماس» على السلطة، واقتطعت لنفسها جزءاً من الوطن، وأقامت عليه كيانها السياسي، ومن أجل حصولها على اعتراف العالم بها، كسلطة حاكمة شرعية، تبنت حرفياً كل البرنامج السياسي للسلطة التي كانت تحرّمه وتخوّن كل من يتبناه، ومارست نفس الفساد الذي كانت تدعي أنها جاءت لمحاربته. وبخطوتها هذه قدمت أهم هدية لإسرائيل ما كانت لتحلم بها، وهي تقسيم الوطن سياسياً وديموغرافياً، والحيلولة دون قيام دولة فلسطينية، أي إزاحة عبء الحل السياسي عن إسرائيل.  
والحقيقة أن قوى المعارضة العربية (وبالذات قوى الإسلام السياسي) هي مشاريع تفكيكية للدولة الوطنية: في اليمن الحوثيون. وفي لبنان «حزب الله» يختطف الدولة، ويعطل أي تقدم لا يخدم مصالحه. في فلسطين اقتطعت «حماس» غزة بالكامل. وفي سورية والعراق مشروع «داعش».   
ولعل أهم ما كشفته ثورات الربيع العربي ليس فساد الأنظمة (خاصة التي تم إسقاطها) بل فساد وخواء قوى المعارضة، وعدم جهوزيتها لتولي الحكم. وبينت أن قوى المعارضة عبارة عن مشاريع كلامية، تعوّض ضعفها بالخطابات الرنانة، وتغطي قلة خبرتها في الحكم والإدارة بتوجيه الاتهامات لخصومها، أو للنظام السابق. فتبين أنها طوال عمرها لم تكن تهيّئ نفسها لتولي السلطة (فهذا يتطلب تدريب وتجهيز رجالات دولة، ويتطلب عقلية المؤسسة والبناء) كانت تسعى فقط لإسقاط الأنظمة التي تعاديها، ولم تتخيل حجم الفوضى الناجمة عن ذلك، ولم تستعد لها ببرامج علمية مدروسة.
وفي حقيقة الأمر لم تستوعب قوى المعارضة حتى الآن فكرة الدولة الوطنية الحديثة، وما زالت تفكر بالعقلية القبلية والطائفية، وبنفس أدوات ومنطق التشكيلات البدائية السابقة لفكرة الدولة الحديثة، فنلاحظ كيف تستقوي المعارضة بالمجتمع ضد الدولة، دون تمييز منها للفروقات الجوهرية بين الدولة والنظام السياسي الحاكم، ففي معركتها ضد النظام تستهدف الوطن والشعب والمجتمع والمقدرات والمستقبل، ولا يهمها إسقاط كل شيء وبطريقة عنيفة وهمجية من أجل مصالحها الحزبية.
كما أن المعارضة عزلت نفسها عن الجماهير (التي ظلت مغيّبة) ولا تتذكرها إلا إذا جرت انتخابات كمقترعين فقط.
في الدول الغربية مثلاً تعمل قوى المعارضة على بناء مؤسسات مدنية خارج الدولة (أو الانخراط في مؤسسات الدولة)؛ بهدف خلق توازن بين قوة الدولة وحاجات المجتمع لصيانة وحماية العقد الاجتماعي الذي قامت على أساسه الدولة، فهي لا تستهدف إسقاط النظام، بل المشاركة في السلطة أو توليها بالكامل، ولكن بطريقة سلمية دون التسبب بفوضى أو انهيارات، مع جهوزية كاملة لاستلام الحكم في أي لحظة تفوز فيها بالانتخابات.
المعارضة تنجح فقط في النظم الديمقراطية، لأنها أهم دعائم الديمقراطية.