وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - خمسة يركبون غواصة "تايتان" وهي من أحدث الأصناف وتملك أعقد التجهيزات، ويغوصون نحو حطام تايتنك الغارقة في قاع البحر على عمق 3.8 كيلومتر منذ العام 1912.
هؤلاء ليسوا فريقا من العلماء وذوي الاختصاص الذين يغامرون في سبيل الكشف عن ألغاز يمكن أن يساعد فكها على تفادي كوارث مستقبلية.
إنهم مجرد أثرياء ذهبوا في رحلة استكشافية لرؤية حطام تايتنك بتذكرة قيمتها 250 ألف دولار لكل واحد منهم، وتندرج محاولتهم تحت باب حرية المغامرة بحثا عن المعرفة، ويعتقد أنهم ومعهم الشركة المالكة للغواصة أرادوا أن يدشنوا نوعا جديدا من البزنيس، قد يدر ربحا معتبرا.
36 خبيرا وقعوا على عريضة وصفوا نوايا رئيس الشركة الملياردير راش بأنها مضللة وحذروا من خطر محتمل على سلامة الركاب واتهموا المدبرين للرحلة بانتهاك مدونة سلوك مهنية من خلال رفض اختبارات معايير السلامة البحرية بحسب مجلة نيوزويك الأميركية.
ورغم ذلك فقد حظوا باهتمام الحكومات والمسؤولين والهيئات وامبراطوريات الإعلام قبل وأثناء وبعد رحلتهم، وما زالت مغامرتهم قيد التفاعل.
كثيرون ممن تابعوا المغامرة تمنوا النجاح والسلامة. ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن انفجرت الغواصة ولقي الخمسة حتفهم لينضموا إلى ضحايا تايتنك السابقين وعددهم 1500.
الأيام التي سبقت غرق الغواصة" تايتان" شهدت محنة غرق قارب لا اسم له، ويفتقد إلى أي تجهيزات تقنية، حمل القارب على متنه 750 شخصا باحثا عن عمل بعد أن فقدوا سبل العيش في أوطانهم.
شبان دفعوا 4500 دولار ثمنا للتذكرة بعد أن "باعوا ما فوقهم وما تحتهم".
مضى القارب المتهالك بحمولة فائضة عن قدرته، يمخر عباب البحر، لكنه لم يصمد طويلا قبل أن يتوقف محركه ويصبح تحت رحمة الأمواج، ثم ما لبث قارب البؤساء أن تهاوى غرقا أمام ناظري الأساطيل الحديثة التي لم تعمل بمبدأ "البحث والإنقاذ في البحر ضرورة قانونية وإنسانية".
أَنقذ متطوعون رائعون 104 أشخاص وبقي مصير 500 شخص في بند موت غير معلن. في حالة الغواصة شاهدنا وسمعنا همروجة إعلامية واهتماما فائقا واستنفار جهات الاختصاص وحكومات وهذا سلوك لا اعتراض عليه. ويتفق مع الضرورة القانونية والإنسانية. أما في حالة كارثة قارب اللاجئين فقد خيم الصمت والتجاهل واللااكتراث والنسيان.
فلا أحد يعرف قائمة الغرقى النهائية، وإذا ما كان بينهم أطفال، لا أحد يعرف نتائج التحقيق وتوزيع المسؤوليات.
الاستجابة للحدثين الدراميين متفاوتة كثيرا لمصلحة الغواصة وروادها. التفاوت يعكس نفاق الكبار والتعامل بمعايير مزدوجة في حقل حقوق البشر والإنسان. لقد جرى الاحتفاء بمغامرة الضحايا الذين ازدادوا غنى، وجرى تجاهل مغامرة الذين ازدادوا موتا. ما حدث للقارب عبر عن تبخيس قيمة الإنسان فضلا عن القهر والاستغلال.
الاستجابة في حادثة الغواصة والقارب تصلح مقاربتها في تعامل النظام الدولي مع دولة أبارتهايد كولونيالية ممثلة بإسرائيل مع شعب تحت الاحتلال، وتعامله مع مستوطنين إسرائيليين ومواطنين فلسطينيين.
مئات المستوطنين يجتاحون قرى وبلدات ويحرقون مئات المركبات والمنازل والمزروعات ويقطعون خطوط الكهرباء في عوريف وترمسعيا وأم صفا وحوارة وغيرها.
المستوطنون النافذون ممن ينتمون إلى مدرسة كوك وكاهانا العنصرية الفاشية بقيادة بن غفير وسموتريتش اللذين لا يترددان في الإعلان عن "أهدافهم وهي أولا: سيطرة عسكرية. ثانيا: ضم أراضي الضفة. ثالثا: طرد الفلسطينيين".
خلال 6 أشهر فقط من عمر حكومة نتنياهو - بن غفير تمت الموافقة على بناء 13 ألف وحدة استيطانية بمعدل سنوي يبلغ ضعف عدد الموافقات إبان إدارة ترامب. بناء استيطاني محموم يتضمن بناء عشرات البؤر الاستيطانية، ويترافق مع هدم منازل ومنشآت فلسطينية واقتلاع أشجار.
منظمة العفو الدولية تتهم إسرائيل بممارسة الفصل العنصري ووصفت قوانين إسرائيل وسياساتها وممارساتها ضد الفلسطينيين بأنها وصلت إلى حد الفصل العنصري، من خلال فرض نظام مؤسسي من القمع والهيمنة على السكان لصالح الاسرائيليين اليهود ويعد الفصل العنصري جريمة ضد الإنسانية في القانون الدولي.
وأصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريرا خلص إلى أن السلطات الإسرائيلية ترتكب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد، وهما جريمتان ضد الإنسانية. هذا القرار جاء بناء على توثيق المنظمة لسياسة حكومية شاملة هدفها الحفاظ على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين، إلى جانب انتهاكات جسيمة تُرتكب ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس الشرقية.
المشكلة بحسب هيومن رايتس ووتش تنبع من ممارسة الحكومة الإسرائيلية السيطرة الحقيقية لأكثر من نصف قرن على الأرض الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، وتوسيع الأراضي المتاحة للمجتمعات اليهودية إلى أقصى حد ممكن، مع تركيز معظم الفلسطينيين في جيوب مزدحمة.
تتخذ هذه السياسة أشكالا مختلفة ويتم اتباعها بشكل صارم. وفرضت إسرائيل حكما عسكريا قاسيا على ملايين الفلسطينيين، وعلّقت حقوقهم المدنية الأساسية، في حين يخضع الإسرائيليون اليهود الذين يعيشون في نفس المنطقة للقانون المدني الإسرائيلي المتساهل، وأجبرت آلاف الفلسطينيين على ترك منازلهم.
وخلصت هيومن رايتس ووتش إلى أن السلطات الإسرائيلية ترتكب الجريمتين ضد الإنسانية المتمثلتين في الفصل العنصري والاضطهاد.
السياسة الإسرائيلية على الأرض، والبرامج والأهداف والقوانين الإسرائيلية السارية المفعول، وتشخيص المنظمات الحقوقية كل هذا لا يترك مجالا للشك في أن الشعب الفلسطيني يتعرض لعملية اضطهاد وقهر وقمع وتطهير عرقي.
حالة الشعب الفلسطيني تشبه حالة قارب اللاجئين المهدد بالغرق، والموقف الدولي يشبه موقف خفر السواحل والأساطيل البحرية التي تهيمن على البحر التي لم تحل دون غرق اللاجئين.
الدعم غير المشروط لإسرائيل وسياستها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية منذ تأسيسها كان أحد الثوابت التي توافق عليها الحزبان الحاكمان الديمقراطي والجمهوري في أميركا. أميركا تتحدث بالأقوال عن حل الدولتين، وتدعم بالأفعال تدمير مقومات الحل على الأرض. يتضاعف الاستيطان منسوبا لعهد ترامب، وإدارة بايدن تقول إنها قلقة، وفي مرات أخرى قلقة جدا وهي في الواقع غير قلقة ولا يحزنون.
تدعو إدارة بايدن إلى خفض التوتر، وتلزم السلطة الفلسطينية بالموافقة، وفي الوقت نفسه تتغاضى عن إضافة 13 ألف وحدة استيطانية وعشرات البؤر الاستيطانية. وعندما يتعرض المحتلون لهجمات مقاومة، تقدم إدارة بايدن أقصى أشكال الدعم السياسي "لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".
إسرائيل تنتهك كل شيء وعندما تتعرض لأشكال من المقاطعة وأشكال من المقاومة تقوم الدنيا ولا تقعد. كأننا نعيش في شريعة غاب يحظر فيها على الضعفاء البحث عن عمل - كما حدث مع القارب - ويحظر فيها على الشعب الفلسطيني أن يتحرر من احتلال مزمن يتم الاحتفاء به في أبشع عملية نفاق يمارسه النافذون في هذا العالم اللا حر.