وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - كنت من الذين يعتقدون أن جائحة كورونا التي اجتاحت العالم فجأة قبل ثلاث سنوات ستكون لها تأثيرات تشبه تأثيرات الحرب العالمية الثانية حيث تعيد صياغة مفاهيم العالم من جديد، وستعمل على إعادة هندسة البشر بما يشبه ضبط المصنع حين أعادتهم لفطرتهم الأولى والخوف من الطبيعة والعدو غير المرئي الذي يدهم فجأة ويحصد ملايين البشر، وتقف أمامه البشرية رغم قوتها في حالة استسلام.
وقفت الجيوش بكل ترساناتها التي استنزفت موارد الشعوب وإمكانياتها عاجزة عن الانتصار على عدو صغير، وكأنّ هناك شيئاً قد انكشف ونُحّي السلاح جانباً، وأصبحت تلك الجيوش في لحظة من التاريخ تعيش حالة بطالة وتحولت إلى ما يشبه المنظمات الإنسانية وفرق الإنقاذ، قلنا وداعاً للحروب بعد تلك الرجة العنيفة التي أصابت الضمير الإنساني، وكأن السماء أرسلت هذا المرض كي تُعلم البشرية درساً جديداً بعد أن بدأت تتناسى آلام الحروب.
لكن الحرب الروسية الأوكرانية عاكست التقديرات. ويبدو أن الغريزة التي تحدث عنها مبكراً الفيلسوف اليوناني هرقليطس في عهد غابر وعاد ماكس فيبر للتأكيد عليها في عصر لاحق أكثر رسوخاً لدى البشر من فطرتهم الإنسانية، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بقارة تم سحقها في حربين عالميتين دارتا على أراضيها.
الحرب الثالثة إن جازت تسميتها وهي كذلك ببعدها الاقتصادي المباشر والعسكري غير المباشر لا تبتعد كثيراً عن سابقاتها في نفس السيناريو التاريخي، ببروز دولة أوروبية تهدد بقوتها بقية دول أوروبا التي تتحالف ضدها، وتتدخل الولايات المتحدة من بعيد وتحسم الحرب وتعود أوروبا لعملية إعادة الإعمار وهكذا.
الحرب التي جرى الاعتقاد أنها ستكون سريعة وستتحول نتائج الميدان إلى أوراق على طاولة التفاوض امتدت حتى الآن ستة عشر شهراً، وبات من الواضح أنها مرشحة للتمديد فلا حسم في هذه الحرب. فلا الدعم الغربي لأوكرانيا مكنها من الانتصار وهزيمة موسكو، ولا تمكنت روسيا من تحقيق انتصار سريع يساوي تهديدات بوتين والجيش الروسي.
أول الخاسرين في هذه الحرب هي روسيا التي لم تتمكن من حسم حربها مع خصم ينعدم معه تكافؤ السلاح. فقد كانت تعتقد أنها ستنتصر خلال أيام أو أسابيع وبات واضحاً أن استمرارها يمعن من النيل من الهيبة والمكانة الروسية كقوة عظمى باتت تطلب مساعدة عسكرية من دولة محاصرة مثل إيران وفي هذا ما يخدش القوة الروسية، بل بدت كأنه تم استدراجها لمستنقع يستنزف تلك القوة ويترك إمبراطوريتها جريحة.
وها هي الحرب تخرج الوحش الذي صنعه بوتين عن السيطرة لينقلب ضده.
وبالمقابل هذه المرة لم تنزل القوة الأميركية على شواطئ الجنوب الأوروبي ولا يمكن في ظل مستجد سلاح الدمار الشامل الذي لم يكن في الحروب الكلاسيكية السابقة ولم تظهر قواتها الكاسحة في الميدان وظهرت عاجزة عن التدخل المباشر ورد العدوان عن حليفها الأوكراني، وهي تقيس خطواتها وتتحرك بحسابات هادئة تحمل قدراً من الخوف من تصعيد الحرب أكبر، فيما تتلقى أوكرانيا الضربات المتتالية.
أوروبا التي أقامت دول الرفاه تقف أمام اقتصادات مثقلة منذ الجائحة، وفي ذروة بحثها عن خطط إنقاذ جاءتها تلك الحرب لتزيد من وطأة أزماتها وتفاقم معاناتها الاقتصادية.
فقد شهدت الأسعار ارتفاعاً كبيراً في كل المواد وأهمها الطاقة التي تعتمد فيها على روسيا وهي التي تسببت بكل الزيادة مع تساؤلات كبيرة في الداخل الأوروبي عن جدوى الحرب والاصطفافات بعد أن غادرت القارة ثقافة الصراع نحو ثقافة الوحدة التي كان نموذجها الاتحاد الأوروبي، ثقافة التعاون والشراكة لا الحروب والدمار.
طرفان وحدهما استفادا من الحرب دول الخليج المنتجة للنفط والغاز التي استغلت الحاجة الأميركية والأوروبية لإغراق الأسواق بهدف إضعاف روسيا ولإسناد الاقتصادات لتستغل اللحظة التاريخية لتعزيز أسهمها وتفرض نفسها.
أما الطرف الآخر وهو الذي تصنفه وكالة الاستخبارات الأميركية كعدو رئيس وهو الصين التي تراقب بحكمة عملية الطحن لكل الخصوم الآخذين بالضعف والانكشاف أكثر، بدءا من «الصديق الروسي» الذي يضعف أكثر حسب المصالح الصينية وصولاً «للخصم الأميركي» ومنها «المنافس» الأوروبي.
لذا لم يكن مصادفة أن يجد المستفيدون من الحرب «الخليج والصين» أنفسهم في حالة تقارب ويشكلون حلفاً جديداً، فكل يوم تزيد الحرب من أسهمهم وممكنات قوتهم على المسرح الدولي، ولهذا لم تتدخل الصين في تسوية الصراع أو اقتراح عملية سلام بين الجانبين رغم فرص نجاحها فهي القوة الوحيدة القادرة على ثني وإقناع بوتين بوقف الحرب، ولن تفعل طالما أن تلك الحرب تصب في صالحها وتشغل الخصوم عن تمددها الهادئ.
هكذا هي الحروب. هناك من يكسب وهناك من يخسر وفي هذه الحرب تقف جميع أطرافها خاسرة حتى من لم يتدخل فيها باستثناء القليل، ومع الزمن تتفاقم أزمات الاقتصاد وتؤدي إلى تفاقم أزمات متعددة «باعتبار الاقتصاد هو محرك السلوك البشري «كما قال كارل ماركس» أي مزيداً من الانحدار في الإنسانية وفي أخلاقها وتلك معضلة أشد، لا أحد يعرف كيف ستنتهي الحرب وآلامها المتزايدة وحين يصبح أمل البشرية معلقاً على عصابة فاغنر لتعيد تصويب الكون عليها أن تراجع ذاتها.