رام الله - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - قمة جدة، كانت حدثاً دراماتيكياً لخص مرحلة في العلاقات العربية الرسمية ودشن عهدا جديدا تتربع في قمته المملكة السعودية باعتبارها العنصر المقرر في النظام العربي "الجديد". عهد جديد احتفل بانتصار النظام العربي الرسمي على الشعوب وانتفاضاتها ومحاولاتها الجدية في انتزاع حريتها. قمة جدة أزالت الفوارق والتصنيفات السابقة بين دول ممانعة ودول محافظة، بين حكم العسكر والحكم المدني، بين دول متحالفة مع اميركا وإسرائيل ودول متحالفة مع روسيا والصين. والتقى الجميع على مهمة درء مخاطر ربيع التغيير العربي، والحفاظ على الانظمة في إطار نظام عربي جديد بقيادة السعودية ودول الخليج. في الوقت الذي تراجع فيه دور مصر والجمهوريات العربية الاخرى التي تصدرت النظام العربي الرسمي وتركت بصماتها عليه على مدى عقود.
التغير الذي نشهده اليوم نشأ وترعرع بعد هزيمة 67 حين بدأت دول البترودولار بدعم التحولات السياسية والاقتصادية والفكرية الرجعية التي شهدتها الانظمة الجمهورية على وقع الهزيمة. وشيئا فشيئا تعززت مكانة أصحاب المال بالقدر الذي اسهموا فيه بدعم التحولات. وكلما اقتربت الانظمة الجمهورية من علاقات التبعية وفي المركز منها التطبيع مع اسرائيل اشتد عود دول البترودولار واصبحت في موقع مؤثر على القرار السياسي العربي الرسمي. الى أن حدث التحول الاكبر وهو هزيمة الانتفاضات العربية في كل البلدان تقريباً، وذلك بمساهمة الاسلام السياسي ومنظماته في عسكرة الانتفاضات وبتمويل دول البترودولار، وبمساهمة التدخلات الخارجية الغربية ومن ضمنها تركيا وكلها دعمت الحرب الاهلية. وفي الجهة الاخرى دعمت روسيا وايران النظام وميليشياته في قمع المطالب الشعبية المشروعة. وكانت النتيجة هزيمة الانتفاضات السلمية وبقاء الانظمة التي اصبحت اكثر انصياعاً لدول البترودولار وقوى التدخل الخارجي بدعوى حمايتها. عند هذا المستوى زال الفارق بين الممانعين والدائرين في فلك التبعية للغرب. جوهر التحول يتبدى في موقف الممانعين الخانع من علاقات التطبيع والتحالف مع دولة الاحتلال - الاتفاقات الابراهيمية -.
ثمة حادثة تلخص مدى الخنوع وهي مجيء وزير خارجية الامارات الى دمشق ولقائه مع الاسد في أعقاب مناورة عسكرية مشتركة بين دولة الاحتلال ودولة الامارات هكذا تعامل النظام الممانع مع التطبيع والتحالف مع اسرائيل وكأن شيئا لم يكن. وكانت جامعة الدول العربية قد وفرت الغطاء السياسي للاتفاقات الابراهيمية التي امتدت لتشمل المغرب والسودان فضلا عن تمهيد الطريق لاتفاق سعودي اسرائيلي.
قمة جدة في أيار الجاري بقيادة السعودية عبرت عن المرحلة الجديدة والعهد الجديد، فقد أعادت بشار الأسد الى الشرعية العربية قافزة عن القرارات الدولية وبخاصة قرار 2254، وبمعزل عن حل سياسي للصراع، وعن معاناة ملايين السوريين المهجرين من بيوتهم ومدنهم وقراهم، وبمعزل عن عشرات آلاف المعتقلين والمفقودين، وعائلات ذوي الضحايا فضلا عن جرائم الحرب الموثقة.
البعض يعتبر أن النظام العربي الجديد، تمرد على الموقف الاميركي الاوروبي الذي رفض مكافأة الاسد وعودته للجامعة العربية بدون قيد او شرط.
حاولت المملكة مقايضة إعادة النظام السوري للصف العربي الرسمي، باستقبال الرئيس الأوكراني يزيلينسكي وتمكينه من استخدام منبر الجامعة العربية لشرح الموقف الاوكراني في مواجهة روسيا.
السؤال الأصعب لماذا تتصدر المملكة ودول الخليج قيادة النظام الرسمي العربي، بمعزل عن ميزان القوى الديمغرافي والادوار التاريخية والمقومات؟ الجواب، بسبب ميزان المال الذي كان عنصرا حاسما وبسبب تحول وانهيار وانصياع الانظمة الجمهورية وعدا ذلك، فإن الواقع يشير الى سلسلة من الهزائم والاخفاقات الخليجية في اليمن ولبنان وسورية والعراق، وفي الوقت الذي جرى فيه تبرير علاقات التحالف مع اسرائيل بالخطر الايراني، سرعان ما بدأت مساعي تبريد الصراع مع ايران والاستعداد لعودة أشكال من التعاون والتعايش، على خلفية الاخفاقات السابقة. وبهذا المعنى نجح ميزان المال في فرض ميزان- جيو سياسي جديد في إطار المصالح الضيقة لقيادة النظام العربي الجديد وفي مواجهة مصالح السواد الاعظم من الشعوب العربية.
الموقف من القضية الفلسطينية يصلح ان يكون مقياسا للحكم على قيادة النظام العربي الجديد. قالوا في خطاباتهم وبياناتهم بان القضية الفلسطينية تربعت على رأس النقاشات، باعتبارها القضية المركزية، ودعوا الى اقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، ودعوا المجتمع الدولي الى الاضطلاع بمسؤولياته لانهاء الاحتلال وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، وغير ذلك من حلو الكلام.
اقوال متناقضة مع الافعال بدءاً من مبادرة السلام العربية التي تنص صراحة على اشتراط اي سلام مع اسرائيل بإنهاء الاحتلال واقامة الدولة وايجاد حل عادل لقضية اللاجئين. ذهبت الاشتراطات مع الرياح عبر الاتفاقات الابراهيمية وبقيت المبادرة للاستخدام في البيانات، وعندما قالت فلسطين ان الاتفاقات متناقضة مع مبادرة السلام العربية محتجة على ذلك، جرى التصدي للموقف الفلسطيني الرسمي على قاعدة جديدة تقول: إن الاتفاقات شأن وقرار سيادي خاص بكل دولة عربية. وبقيت لجنة القدس شاهد زور على الاستيطان الزاحف وتغيير معالم المدينة وممارسة شكل من أشكال التطهير العرقي. انتهكت الدول العربية التي ابرمت اتفاقات مع مستوطنات ومستوطنين قرارات الشرعية الدولية التي تعتبر الاستيطان غير مشروع وتدعو الى مقاطعته. وفي المحصلة كافأت دول
عربية دولة الاحتلال عوضا عن ممارسة ضغوط وعقوبات ضدها بسبب انتهاكها للقانون الدولي ولقرارات الشرعية الدولية. الدليل على صحة هذا الكلام هو الانتهاكات الاسرائيلية اليومية في القدس والضفة وتصاعد العدوان على غزة وتوحش المستوطنين وصعود الكهانية العنصرية الى الحكم ومضاعفة الاستيطان وممارسة قرصنة مالية على حساب قوت الشعب الفلسطيني. مقابل ذلك فإن معظم الدول الخليجية تمتنع عن دفع حصتها المقرة في قمم عربية سابقة لدعم صمود الشعب الفلسطيني، وقد ترتب على ذلك ازمة اقتصادية هددت قطاعي الصحة والتعليم بالانهيار. للاسف الشديد اكتفت القيادة الفلسطينية بحلو الكلام.
وضع فلسطيني جديد في غاية الخطورة، لا يمكن القبول به، ووضع عربي جديد لا يمكن التعامل معه بالاساليب والمواقف ذاتها. الشعب الفلسطيني والشعوب العربية باتت في خضم تحديات من المفترض ان يكون الرد عليها بروية وتعقل من خارج المألوف، ومن خارج الصندوق.