وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - من كل حدب وصوب، ومن كل حارة وشارع يأتون، تدفقت الحشود صوب مركز مدينة باريس، شبان وصبايا وكبار سن وعائلات، توحد مئات الآلاف ممن ينتمون الى أعراق وألوان،  مواطنين ولاجئين ممن لفظتهم أوطانهم بلا رحمة. كان العمال والعاملات أكثر حضوراً، والنظام والتنظيم هو ديدن الحشود، لا وجود لصفوف أولى وهرمية تنظيمية وأبوية تضم  قيادات سياسية او نقابية في المسيرة الرئيسية والمسيرات الفرعية، يوجد  حضور لنقابات يحتشد تحت يافطاتها عمال وعاملات ومن يرغب في المشاركة. الشعارات المكتوبة والهتافات طرحت مطالب لكنها استهدفت الرئيس ماكرون.
 كان الشعار اللافت "ماكرون اسمع صوت الشارع". وشعار: "لن يكون لدينا رئيس جيد ولا برلمان جيد ولا دستور جيد إلا بالنضال والثورة وهو الحل الوحيد".
 أعجبني شخص كبير في السن يحمل علماً فلسطينياً وصورة للثائر ارنستو غيفارا، يمشي منفرداً ولا يخلو خياره من مغزى كأنه يريد أن يقول إن التحرر الفلسطيني قضية عالمية. هبوا ضحايا الاضطهاد، ثوروا حطموا القيود، بركان الفكر في اتقاد ..إنه النشيد الأممي الذي أثار الخوالج وهو يصدح بالفرنسية ولكن بلحن واحد أممي أتاح للذين يتحدثون بلغات أخرى المشاركة في غنائه، هذا النشيد جعل للتضامن معنى. مجسمات ورسوم ورموز ورقص وغناء تعبر عن المطالب وترفع الذائقة الجمالية. الشجاعة في حرية التعبير وتجسيد تضامن حقيقي على الأرض ومشاركة الذين يعانون في كل المجالات في النضال من أجل رفع الظلم وانتزاع المطالب. تتحد النقابة مع عمالها وتتحد النقابات في اتحاد عمال، دون ان يعني ذلك ان كل شيء على ما يرام، فهناك نقابات متهمة بالتواطؤ مع الحكومة، وهناك يمين عنصري، ويسار توتاليتاري. ومجموعات تمارس العنف كتحطيم أبواب وزجاج المحلات وإشعال النيران. ولكن عندما تتصدى الشرطة للمحتجين يتوحد الجميع ضد الشرطة ويهتفون معاً نكره البوليس ولا نثق به. ما أود قوله هنا ثمة حافز على المشاركة في هذا النوع من الفعل النضالي. بمعنى توجد قوة جذب للاندماج مع الجموع من موقع المصلحة والإحساس بجدوى النضال الذي يستطيع انتزاع مكتسبات ويحسب له حساب.
وزعت أحزاب ونقابات وحركات اجتماعية مشاركة في احتفال الأول من أيار عشرات البيانات التي تحدد المطالب وتشرح السياسات، ولحسن الحظ أزالت خدمة الترجمة الفورية في غوغول حاجز اللغة، كان يكفي التقاط صورة للبيانات بالموبايل وتحويلها الى الترجمة ليكون المرء مزوداً بالمعلومات التي يحتاجها، سأعرض ابرز القضايا التي أثارتها البيانات. وفي مقدمة ذلك الموقف من الحروب. قالوا، لا للحروب الامبريالية التي تجعل الشعوب تتضور جوعاً وتخلق أزمة الطاقة وتلوث البيئة وتلحق خسائر فادحة بشرية واقتصادية. لا للحرب الروسية الأوكرانية ولجميع الحروب الاربعين التي تدور رحاها الآن وفي رأس القائمة الحرب في فلسطين. "توقفوا عن إطلاق النار فورا" وأوقفوا سباق التسلح. وقد جرى توزيع عريضة سلام للتوقيع عليها أثناء المسيرة. تقول العريضة لا يمكن ان يتحقق السلام العالمي بدون عدالة تزيل عدم المساواة بحسب القانون الدولي وكما ورد في المادة 26 من ميثاق الأمم المتحدة.
 وفي شرح رفض الحروب والانحياز للسلام. يقول بيان حركة السلام: تعتزم الحكومة الفرنسية تمرير قانون البرمجة العسكرية " Lpm" البالغ 413 مليار يورو على مدى 6 سنوات بزيادة 40% ويشمل 60 مليار دولار للسلاح النووي وهذا انتهاك لمعاهدة انتشار الأسلحة النووية ولمعاهدة حظر الأسلحة النووية التي وقعت عليهما فرنسا. ويدعو البيان توجيه الاقتصاد نحو السلام بدلا من الحرب. بيان آخر موقع باسم الاتحاد البروليتاري. يقول "تدمر القوى العظمى قواعد حياتنا الطبيعية من خلال زرعها للبؤس والحروب . ونقد بيان "حزب المساواة الاشتراكي" الرئيس ماكرون الذي عمل على زيادة الانفاق العسكري بمقدار 14 مليار يورو سنوياً، وفي الوقت نفسه يعتزم خفض المعاشات التقاعدية بمقدار 13 مليار يورو ولم يصغ لرفض ثلاثة ارباع الفرنسيين للخفض، ورغم ذلك فرض موقفه على الجمعية الوطنية – البرلمان-.
 توحد الفرنسيون في الأول من أيار على موقف رفض الحرب الروسية الاوكرانية وكل الحروب وان اختلف البعض على الطرف الذي يتحمل مسؤولية اندلاع الحرب بدون تبرئة أحد. اليسار يعتبر الحرب منتجاً رأسمالياً، ويعتبر الحرب الروسية الأوكرانية هي حرب بين رأسماليات تتصارع على الموارد واحتكارات الطاقة والنفوذ والهيمنة، ولا يتم استثناء الدول الرأسمالية التي تملك صناعة حربية متطورة ( أميركا روسيا الصين فرنسا المانيا تركيا ايران.. ولا الرأسمالية الأوكرانية الحاكمة ولا رأسماليو الهند وممالك الخليج وكلاء الاحتكارات. ومن المؤسف ان ليسارنا الفلسطيني رأياً آخر في الموقف من الحرب من خلال تأييده لروسيا ولتجاهله إعادة تعريف روسيا وموقعها ضمن الرأسمالية العالمية، وما يزال عالقا في ثنائية معارضة ورفض سياسات الغرب وقبول سياسات كل الأطراف التي تتصارع أو تختلف معه، متجاهلة حقيقة ان الصراع على النفوذ بين أنظمة جلها رأسمالي ليس في مصلحة أي شعب من الشعوب وبخاصة الشعب الفلسطيني. من السهل تلمس منظومة القيم التي يستند اليها 44 حزباً شيوعياً و30 منظمة شبيبة يسارية وهي رفض الهيمنة والحرب والاحتلال والاستبداد والديكتاتورية كائناً من كان الطرف الذي يمارس تلك السياسات. ومن الصعب تبرير وتفهم مواقف أحزابنا المؤيدة لحرب تقاسم النفوذ الامبريالية والأكثر صعوبة تبرير الانحياز لأنظمة عربية مستبدة ودكتاتوريات لمجرد تقديمها خطابا مناهضا للاحتلال والغرب.  
نسبة الإناث الفرنسيات في إحياء الأول من أيار تكاد تقترب من نسبة الذكور وكانت فعاليتهن في العديد من مراكز النشاط أهم أو هكذا ظهرن. هذا الحضور الحيوي وثيق الصلة  بموقعهن الفعلي في سوق العمل الذي يسجل نسبة  48% من القوة العاملة التي يبلغ تعدادها 28.8 مليون عامل وعاملة، ويشاركن في النقابات بنسبة 45% وقد نجح بعضهن في موقع قيادة نقابات، ويشاركن بنسبة 42% في البرلمان وبنسبة 46% في الحكومة.
أختم بالتوقف عند تطور هام تحدثت عنه البيانات، يقول ان هذا العام شهد نضالات جماهيرية قوية تعدادها بالملايين ضد التوحش الاقتصادي والأمني العسكري. ففي فرنسا – بلغ عدد المشاركين والمشاركات في احتفال أيار 2.3  مليون – وفي ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا وعموم أوروبا وبلدان حول العالم شاركوا بأعداد كبيرة. النضالات عبرت عن قوة الطبقات العاملة وتنظيماتها النقابية في مواجهة البيروقراطيات الفاسدة.
 السؤال هل نحن كشعب فلسطيني جزء من هذا النضال العالمي ضد الهيمنة والحرب والعنصرية؟ الجواب لا، والسبب يكمن في تخلف أدوات النضال وانغلاقها على فكر لا يتجدد.