وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - بعد تكهنات طويلة عن قدرة الرئيس الأميركي جو بايدن على قيادة الولايات المتحدة ولياقته الصحية أثناء ولايته بعد كثير من المواقف المحرجة أخرجتها ذاكرته المتآكلة حسم الرئيس موقفه بالترشح لولاية رئاسية ثانية. وبالتالي هو يريد أن يقود مجددا الدولة التي تتآكل رئاستها للعالم وسط منافسات كونية وحروب تبدو الولايات المتحدة طرفا فيها لكنها لا تحقق النصر الكاسح الذي اعتادته خلال العقود الثلاثة الأخيرة منذ تفردت بقيادة هذا العالم.
ما العلاقة بين اهتزاز ذاكرة الرئيس وارتعاش يديه وبين اهتزاز التفرد الأميركي ؟ قد تكون مصادفات لا علاقة لها بالواقع لكن سخريات التاريخ وربما أحكامه قدمت كثيراً من النماذج حول العلاقة بين المسألتين؟
فروسيا التي تتصرف بتهور حد حافة الهاوية تشبه رئيسها الأكثر تهورا، والصين الصاعدة باكتساح تشبه رئيسها الطاغي والحيوي حيث اضطر الحزب الشيوعي الصيني لتغيير دستور الدولة لتمكين شي جينغ بينغ من الاستمرار بقيادة الدولة التي تتقدم بلا توقف على طريق الهيمنة.
في تراجع صورة الولايات المتحدة ما يستدعي البحث عن عالم يشهد تحولات هائلة ليست في صالح الدولة العظمى التي أنهت تحطيم خصمها السوفييتي الذي زاحمها لعقود منذ الحرب العالمية الثانية، التي انتهت بتتويج الولايات المتحدة ووراثتها إرث الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية اللتين حكمت نتائج الحرب عليهما بالنزول عن العروش.
ولأن الولايات المتحدة في العقود الثلاثة الأخيرة أصبحت الإمبراطورية بلا منافس كانت محل النقاش العام ومراكز البحث حيث كانت تصنع سياسة الكون في واشنطن حصراً، فحين كانت ترفع سبابتها كانت الجغرافيا تهتز في بقعة من العالم.
ما يجري حاليا أشبه بنذر تمرد على القيادة العالمية، الصين تزحف إلى حيث مواقع نفوذ كانت حكراً على واشنطن، وروسيا تقتطع أرضاً من أقرب حلفاء واشنطن وتعلن حربا في مواجهة أقوى حلف عسكري تقوده الدولة الكاسحة، والسعودية تشيح بوجهها عن واشنطن وتعمل بالنقيض لمصالحها في منظمة أوبك وتتصالح مع إيران الدولة اللدودة، وهناك نذر تملص أوروبي من قيود الزعامة الأميركية يعلنه الرئيس الفرنسي من العاصمة الخصم بكين، وإسرائيل تنتج حكومة مشاكسة للسياسات الأميركية، كل هذه الأحداث وأكثر يمكن رصدها جميعها تقول إن القبضة الأميركية آخذة بالوهن.
في اللحظة التي بلغت القوة الأميركية ذروتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي يمكن القول إن تلك اللحظة بدأت تسجل مطلع الهبوط الأميركي. فقد كانت فرصة لأن تقدم أميركا نموذجا تاريخيا لكنها تصرفت بجنون العظمة بما يخالف المبادئ الأميركية نفسها ومبادئ ويلسون، فكانت القوة الطاغية حيث جرى الدم بلا حساب واختلت العدالة بلا حسيب وحرقت الطائرات ما يكفي من الأجساد. ولسوء حظ الولايات المتحدة فقد رافق حروبها التي استنزفتها عصر الفضائيات والبث المباشر ليتفرج الكون بالصوت والصورة على أسوأ ما يمكن أن تمارسه قوة عظمى تجاه قضايا أعطى لها التاريخ فرصة ليختبر كفاءة عدالتها وقيمها.
وبسبب الفراغ لحظة انهيار العدو الاستراتيجي ساد الاعتقاد أن التاريخ ينتهي عند تلك اللحظة التي أنتجت مفكريها على نمط فوكوياما القائلين إن الزمن يتوقف على عتبة المحيط الأطلسي وإن التاريخ يحط رحاله على ضفاف نهر بوتوماك في واشنطن.
ثم بدا الزمن الأميركي الذي بلغ الذرى العالية مأسوراً بالقوة الوحيدة في عصر الرئيس جورج بوش ليفتح حروبه الدنكوشوتية بلا كوابح في العراق وأفغانستان، وهي الحروب التي لم تفقد فيها الولايات المتحدة أموالها وتستنزف فيها اقتصادها، بل كانت الخسارة الأميركية الأكبر في مبادئها وأخلاقها وصورتها والنموذج الجاذب الذي كان في الستينيات. فقد أخذت الولايات المتحدة تفقد إحدى أهم أدوات التأثير في العالم وهي القوة الناعمة ووهج الحضور الناعم معتمدة فقط على القوة العسكرية الكاسحة، وهنا كانت تكتب إرهاصات التمرد.
جاء الرئيس باراك أوباما ليرث حضورا أميركيا مستبدلا القوة الخشنة بالقوة الناعمة. لكن الزمن كان قد تأخر، فشيء ما كان قد مس بالصورة الأميركية لم يكن من السهل ترميمه. فقد كانت الجروح قد تفتحت في أكثر من عاصمة وكانت رائحة الدم والخراب تزيح رائحة النموذج الجاذب الذي بدأ ينطفئ لصالح نموذج مختلف فقدت فيه العدالة قيمتها في قصة السلاح الكيماوي في العراق وخديعة مجلس الأمن. لكن إسرائيل كانت النموذج اليومي الأبرز للعدالة الأميركية تنهش يوميا من رأسمال الأخلاق والمبادئ الأميركية حدا أوصلته لشفا الإفلاس لكثرة ما أنفقت وهي تغطي عورة الاحتلال. وما أن انتهت فترة أوباما حتى كان الرؤساء الثلاثة قد هاجموا تسع دول خلال أقل من ربع قرن فقط.
كمأساة البطل الإغريقي تجسدت المأساة الأميركية بوصول الرئيس ترامب للقصر الجمهوري ليجلس على كرسي توماس ويلسون، وليقدم مقدما الولايات المتحدة الأميركية بصورة البلطجي القوي الذي يقدم خدمة الحماية مقابل المال، ليغير تماما الصورة الأميركية ضاربا إحدى أكبر أدوات النفوذ والتأثير الأميركي في العصب بنموذجه الجاذب وقوته الناعمة متزامنا مع جائحة كونية لا تصلح القوة لعلاجها وبروز قوى كونية شابة مزاحمة لتقف الولايات المتحدة في حالة اندهاش ساخرة يقدم رئيسها وصفة الكلور علاجا للكارثة.
كان لا بد أن يأتي الرئيس الهرِم كأن الأقدار تكتب حكاياتها بما ينسجم مع وقائعها، وكما يسأل الرئيس الأميركي عن والدته في المؤتمر الصحافي تتساءل الولايات المتحدة عن ماضيها الأسطوري ومناطق نفوذها التي تنسحب من تحت أقدامها وتمرد هنا وهناك ونذر تغيرات هائلة تشبه التغيرات بعد الحرب العالمية الثانية وتحولات سريعة لممكنات القوة في العالم ... التاريخ لم يكتب نهايته بعد كما قال فوكوياما بل كما قال محمود درويش: «يسخر من أبطاله ..يلقي عليهم نظرة ويمر».