عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - ظاهرة العملاء ليست بالجديدة، ولا هي خاصة بمنطقتنا. وتاريخياً؛ في كل مناطق الصراع يظهر العملاء والجواسيس، والمتساوقون مع العدو، والمستلبون فكريا، كما يظهر المقاومون والمضحون بأنفسهم.. ما يميز فلسطين أن ظاهرة العمالة ظلت مرفوضة من المجتمع، وبقيت على المستوى الفردي كحالات استثنائية منبوذة، ولم تتحول إلى ظاهرة جماعية مقبولة كما حدث في معظم الدول التي تعرضت للاحتلال.
ومنذ اليوم الأول للاحتلال، وضع العدو مخططاته لاختراق جبهتنا الداخلية، وتنظيم شبكات من الجواسيس، ومن أجل ذلك سخّر إمكانياته الضخمة وخصص جهازا متكاملا لهذا الغرض، استخدم فيه أحدث ما تتوصل إليه التكنولوجيا، ووظف أفضل الكوادر المدربة من علماء متخصصين وأطباء نفسيين، وخبراء في الأمن.. يقوم بذلك على ضوء فهمه للتركيبة النفسية والاجتماعية والقيمية للمجتمع الفلسطيني.
والساحة المفضلة لأجهزة المخابرات هي غرف التحقيق، وحسب تقارير متخصصة؛ تعرض مئات الآلاف من أبناء شعبنا للاعتقال (لفترات متفاوتة)، وأغلبهم من فئة المراهقين والشباب. وما يحدث حينها هو مواجهة غير متكافئة بالمطلق؛ بين ضابط مخابرات مدرب ومؤهل وبإمكانيات هائلة، مقابل شاب في مقتبل عمره (وأحيانا طفل) ليس لديه أي خبرة أمنية، وتحت التهديد والابتزاز.
وهنا أُثني على المداخلة الذكية والوطنية للصديق طارق عسراوي، والتي قال فيها: «تعتقل سلطات الاحتلال في كل ليلة عشرات الشبان الفلسطينيين، وهم في مطالع أعمارهم، فلماذا لا يوجد برنامج إذاعي أو تلفزيوني واحد، أو خطبة جمعة أو ندوة عامة تنير للناس وللشباب، وتضيء أمامهم أساليب الاحتلال في التحقيق، وما يجري في الاعتقال، وحقوقهم القانونية وغيرها، حتى لا يستغل الاحتلال خوفهم من المجهول أثناء الاعتقال.
لماذا مثلاً لا تعكف مؤسسات مثل نادي الأسير أو هيئة شؤون الأسرى على إعداد كُتيّب توعوي «دليل إجراءات» بعنوان كيف تواجه الاعتقال؟ وتوزعه على الناس، وخاصة في المدارس والجامعات. ولماذا لا يقوم كل فصيل بإعداد مادة تثقيف أمني ويوزعها على أعضائه.
أليس من الغريب جدا بعد هذه السنوات من الاشتباك المفتوح بكل الوسائل مع الاحتلال، أن يبقى المجتمع الفلسطيني غير محصّن في مواجهة أدوات الاحتلال في الإسقاط، ورمي شباكه الأمنية حول رقاب الشباب الفلسطيني!
نعم، نحن مجتمع فيه ما يكفيه من الأمراض الاجتماعية، ويتعرض وعينا الجمعي منذ سنوات طويلة للهدم الممنهج، لكن إلى متى سنبقى صامتين؟ ولماذا لا نتحدث علانيّة عن أدوات الإسقاط، ولا نقدّم الأمان، ولا نحتوي الفرد قبل سقوطه في وحل العمالة!
إن السقوط الأخلاقي يؤدي في مجتمعنا بالضرورة إلى السقوط الأمني لأسباب اجتماعية تخصّنا، أهمها أن المجتمع يمارس أحكامه الأخلاقية بقسوة على من يقع في الخطأ الأخلاقي فيجعله دون إدراك منا فريسة سهلة، وعارية للاحتلال.
في حقيقة الأمر، أسباب العمالة كثيرة وعوامل السقوط الأمني متعددة، لعل أبرزها ابتزاز المخابرات للضحية، خاصة فيما يتعلق بالسلوك الجنسي، أو أي أخطاء شخصية.. وهنا يلعب المجتمع والأهل الدور الأهم (وهو دور متوارٍ، وغير مرئي)، فسبب مفهومنا المتخلف للشرف، وبسبب رغبتنا الدائمة في إصدار الأحكام القاسية بحق من يخطئ (وحتى من نظنه مخطئاً مجرد ظن) فنحن بذلك نمنح العدو التسهيل الأول، ثم نقدم له الضحية لقمة سائغة.
يظن البعض أن قتل الجاسوس (أو أي مجرم) يشكل رادعا لغيره.. وهذا أكبر وهم، تلك خديعة مريحة، توهمنا بأن العقوبة القاسية وبلا رحمة ستعني إنهاء الظاهرة، أو إحقاق العدالة.. وفي الواقع نحن بذلك نحاكي غريزة بدائية في دواخلنا، اسمها الانتقام، أو التلذذ بعقوبة وإيلام وإيذاء من يقع في الخطأ.
بالطبع، العقوبات ضرورية، ولكنها ليست هدفا بحد ذاته، وهي لا تردع من يريد ارتكاب جريمة إلا بقدر تأجيلها إلى حين ضمان إخفائها، أو إخفاء صلته بها. ما يردع المجرمين ويوقف الجرائم كلها هو تحصين المجتمع والأسرة والفرد بمنظومة الأخلاق والقيم القائمة على التفاهم والتسامح والصراحة والعدالة والحب والحوار والاحتواء.. وطبعا مع وجود نظام وقانون ومؤسسات تضمن وتحمي كل ذلك.
وبالنظر إلى بعض الأمثلة لجواسيس ثبتت عليهم التهمة، سنجد أنهم قبل اكتشاف أمرهم كانوا الأشد تطرفا والأكثر ادعاءً بالوطنية، فمثلا هناك كان من أبرز قادة الانقلاب الميدانيين في غزة 2007، وهو الذي حرّض على الشهيد سميح المدهون وقتله، حتى كشفته «حماس»، وأعدمته شنقاً بعد إدانته باغتيال الشهيد مازن فقها، بتعليمات من «الشاباك» في العام 2016. وآخر باع منزله في القدس لجمعية استيطانية يهودية، ثم فر هاربا من البلاد. وكان قبلها من أشد المتطرفين تهجما على السلطة، حتى أنه شارك في الاعتداء على إمام المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري بحجة أن خطبته لم تمجد المقاومة في غزة. والشخص الذي اعترف بتقديم معلومات أدت إلى استشهاد سبعة من المقاومين في نابلس، في حين كانت صفحته على فيسبوك مليئة بعبارات تمجيد المقاومة، ومدح الشهداء والدعوة لتصعيد المقاومة المسلحة.. ما يثبت مقولة «المتطرف إما غبي، أو جاسوس».
الإعدام الذي تم في نابلس، اسمه القتل خارج نطاق القانون، حتى لو تمت إدانة المتهم، والحصول على اعتراف منه؛ فالاعتراف له شروط قانونية حتى يكون صحيحاً، ومن حق كل متهم مهما كانت جريمته الحصول على محاكمة عادلة تتوافر فيها كل شروط العدالة.
مع تقديرنا لحجم الحزن على الضحايا الشهداء، ومع ثقتنا بعدالة المقاومين، لكن التجارب برهنت في كل مرة أن السلطة المطلقة تؤدي إلى مفسدة مطلقة؛ فمن يضمن ألا يتم استغلال القوة لأغراض أخرى، ولتصفية حسابات شخصية وعشائرية، سواء من مجموعات المقاومة، أو من جهات أخرى تتغطى بالمقاومة. من يضمن إذا فُتح باب المحاكمات والإعدامات خارج إطار القانون ألا يقود ذلك إلى فوضى شديدة، ستؤدي حتما إلى الانهيار المجتمعي الشامل. ألا يجدر بنا التعلم من أخطائنا السابقة؟
نحن شعب نقاوم الاحتلال ونرفض الظلم، وقيمة قضيتنا الوطنية في الأخلاق التي تمثلها، وإذا مارسنا الظلم بأنفسنا، وإذا تورطنا في مستنقع الفوضى سنفقد تفوقنا الأخلاقي في صراعنا الوجودي مع الاحتلال، القائم على مبادئ الحق والعدالة.