وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - في الثلاثين من أيار 1972، هبطت في مطار اللد طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية قادمة من روما، وفي صالة انتظار تسلم الأمتعة كان ثلاثة يابانيين ينتظرون حقائبهم بصمت، وما أن تسلموها حتى أخرجوا ما بداخلها من أسلحة رشاشة، وبدؤوا بإطلاق النار، فقُتل 26 شخصاً، وأُصيب العشرات.. ثم قام مهاجمان منهما بالانتحار، فيما عجز الثالث عن ذلك بسبب نفاد ذخيرته.
لم يكن المهاجم الثالث سوى الياباني «كوزو أوكاموتو»، والذي ستطلق عليه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اسم «أحمد».. كان قد سافر في رحلته الأخيرة بجواز سفر مزور باسم «ديسوكي نامبا» (وهو اسم الرجل الذي حاول اغتيال إمبراطور اليابان «هيروهيتو» سنة 1923).
انتمى أوكاموتو للجيش الأحمر الياباني، وهي منظمة يسارية تؤمن بحرية الإنسان وحق الشعوب في التحرر، وكانت تهدف للإطاحة بالحكومة اليابانية والحكم الإمبراطوري لبدء ثورة عالمية.
اشتهرت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بتخطيط لعمليات احتجاز رهائن، ودعت إلى الثورة العالمية ضد الإمبريالية من خلال الكفاح المسلح، أسستها سنة 1971 «فوساكو شيغينوبو»، وهي التي خرجت من سجون اليابان في أيار 2022، وعمرها ناهز 76 عاماً، أمضت منها 20 عاماً في السجن.
أطلق عليها مؤيدوها لقب «الملكة الحمراء»، أما معارضوها فلقبوها بـ»إمبراطورة الإرهاب».
عاشت 30 سنة في المنطقة العربية، مؤيدة للقضية الفلسطينية، بدأت علاقتها مع الشهيدين وديع حداد وغسان كنفاني، وفي العام 2000 عادت إلى بلدها الأصلي سراً، لكن السلطات اليابانية اعتقلتها، ومن زنزانتها أعلنت حل الجيش الأحمر الياباني (الذي كان بحكم المنتهي فعلياً)، وحين أنهت عقوبتها في سجنها في طوكيو خرجت وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية، وكان في استقبالها ابنتها «ماي»، وقد حمل العديد من مناصريها لافتة كتب عليها «نحن نحب فوساكو».
كانت ستينيات وسبعينيات القرن الماضي الحقبة الذهبية للمنظمات اليسارية والثورية في مختلف بلدان العالم، خاصة بلدان أميركا اللاتينية وشرق آسيا، والشرق الأوسط.
وقد شهدت أيضاً انتصار الكثير من الثورات الشعبية واليسارية المدعومة آنذاك من الصين والاتحاد السوفييتي.. وكانت القضية الفلسطينية محور الارتكاز ونقطة الجذب لجميع أحرار العالم، الذين جاؤوا للمنطقة، وناضلوا من أجل وطن ليس وطنهم، دون انتظار أي مقابل، وشاركوا في معركة استعادة الحق الشرعي للفلسطينيين، لإيمانهم بأن فلسطين قضية إنسانية وأخلاقية، وقضية حرية وعدالة وكفاح ضد العنصرية والطغيان والاحتلال.
لذا عند الحديث عن تجربة أكوموتو وغيره من الثوار، ينبغي فهم السياقات التاريخية والسياسية في حينها.. في الساحة الفلسطينية اشتهرت»الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بخطف الطائرات، وبالتحالف مع العديد من حركات التحرر العالمية، ومن ضمنها «الجيش الأحمر الياباني».
بعد اعتقال أوكاموتو، عرض عليه الضباط الإسرائيليون تزويده بمسدس لقتل نفسه إذا تعاون معهم خلال التحقيق؛ فوافق أوكاموتو، لكن الإسرائيليين نكثوا بتعهدهم.
وخلال محاكمته، تمنى أوكاموتو الحكم عليه بالإعدام، لكن سلطات الاحتلال حكمت عليه بما هو أقسى من الإعدام بكثير.
حُكم عليه بالسجن مدى الحياة، قضى 13 سنة كاملة في زنزانة انفرادية معزولاً تماماً عن العالم الخارجي.. كان الهدف تدمير نفسيته، وإهانة كرامته، وتحطيم إنسانيته.. لم يكن السجان يتحدث معه.. كان يُراد قتله بالصمت.. والحالات النادرة جداً التي تحدث معه أحد، كانت مع مندوب من السفارة اليابانية، الذي اعتبره إرهابياً، ولم يتعاطف معه، وذلك لتعميق عزلته.. كانوا يجبرونه على تناول الطعام ويداه مكبلتان من الخلف «مثل الكلاب»، وطوال تلك السنوات الثقيلة لم يكن يسمع صوتاً، سوى صوت تسجيل لنباح كلاب، كان سقف زنزانته «واطياً»، حتى يُجبر على السير مثل الكلاب.
كان أوكاموتو يجيد ست لغات بطلاقة، لكنه كان محروماً من الكلام، ومحروماً حتى من سماع أي صوت آدمي..كان انتقاماً بشعاً.
وحين أُطلق سراحه من خلال صفقة تبادل بين الفلسطينيين وإسرائيل في العام 1985. بدا يومها نحيلاً شاحباً وواهناً وفاقداً للتركيز، كان أشبه برفات إنسان.
احتاج وقتاً طويلاً بعد إطلاق سراحه حتى عاد لتناول الطعام بيديه، لكنه بقي يتناول آخر لقمة من طبقه بلسانه.. لذا، أكاد أجزم بأنه لم يتعرض إنسان لمثل هذا التعذيب الوحشي والمنهجي، ولا حتى في زمن محاكم التفتيش.
بعد تحرره وصل إلى مطار طرابلس في ليبيا، وهناك حمله محبوه على الأكتاف، ثم عاد إلى سورية، وإلى معسكرات الجيش الأحمر الياباني والجبهة الشعبية في البقاع اللبناني، ثم استأجرت له الجبهة الشعبية بيتاً في لبنان، وتزوج من فلسطينية، لكن الأمن اللبناني اعتقله في العام 1997 وحكم عليه بالسجن من جديد، بتهمة انتهاء تأشيرته! وكانت السلطات اللبنانية تهم بتسليمه مع رفاقه الأربعة إلى الحكومة اليابانية ليمضوا بقية حياتهم في السجن هناك. ضمن صفقة لحكومة الحريري مع اليابان، سميت إعلامياً «صفقة العار»، تشبه صفقة «عمر البشير» حين سلم المناضل الأممي «كارلوس» لفرنسا سنة 1994.. ولكن على إثر التظاهرات الشعبية، والرأي العام اللبناني، وضغوط الفصائل الفلسطينية والأحزاب اللبنانية، وتطوع عشرات المحامين اللبنانيين للدفاع عنه، سلمت السلطات اللبنانية أربعة عناصر من الجيش الأحمر إلى اليابان في العام 2000، وأطلقت سراح أوكاموتو ومنحته حق اللجوء السياسي، شريطة عدم ممارسته أي نشاط سياسي، أو الظهور على وسائل الإعلام!
يعيش أوكاموتو آخر سنوات عمره برعاية الجبهة الشعبية، ولا يظهر إلا نادراً، وما زال يتحدث عن فلسطين، ويرفض الاحتلال، يحب القهوة وتناول الحلويات، وقد أقلع عن التدخين بطلب من أطبائه. يعيش حياة بسيطة وروتينية، يقضي معظم وقته في مشاهدة توم وجيري، وفي ملاعبة قطتيه.
كوزو، أو أحمد الياباني، الذي أحب فلسطين، وآمن بعدالة قضيتها، وبحق الشعب الفلسطيني في استعادة وطنه، والذي ضحى بسنوات شبابه في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وقد تعرض لأقسى وأبشع أنواع التعذيب.. يستحق التكريم، ويستحق أن يعرفه العالم والجيل الجديد.