وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - تفاءل المثقفون الفرنسيون بعد الانتصار التاريخي على النازية في الحرب العالمية الثانية، بحصد ثمار الانتصار فأسس اتجاه منهم حركة يسارية باسم (S.R.L) ضمت سارتر وسيمون ديبو فوار وألبير كامو والكاتب الأميركي نيلسون آل غرين وغيرهم. بحسب رواية (المثقفون) لسيمون ديبو فوار / ترجمة ماري طوق. الرواية تحدثت عن قصة الصراع بين الأخلاق والسياسة، بين متغيرات السياسة وثوابت الأخلاق.
الحركة اليسارية نادت بأوروبا اشتراكية وبالعدالة والحرية والحقيقة. وقد رفضت الاستعمار والتوتاليتارية الستالينية وأكدت على النزعة الإنسانية والذاتية في مواجهة الأيديولوجيات الفاشية والنازية والستالينية والرأسمالية. وكان هدف المنظمة قطع الطريق على وقوع أوروبا كمستعمرة أميركية من جهة أو وقوعها في قبضة التوتاليتارية الستالينية، خلافاً لذلك سعت لتعزيز أوروبا مستقلة في الوقت الذي انحاز فيه الحزب الشيوعي الفرنسي للاتحاد السوفييتي.
جاء الخلاف داخل اليسار الفرنسي على خلفية اكتشاف وثائق في أرشيفات الرايخ حول وجود معسكرات اعتقال سوفييتية تضم 9 ملايين و800 ألف معتقل، ومن خلال معلومات قدمها المعتقلون البولونيون الذين جرى تحريرهم في العام 1941، وكذلك اعتمدت الحركة اليسارية على التقرير الصادر عن موسكو في العام 1935 الذي يعدد منجزات المعتقلات التابعة للشرطة السرية.
تضارب المعلومات حول عدد المحكومين بالأشغال الشاقة المؤبدة أحدث هامشاً من الشك لكن الشيء الأكيد هو أن هذه المعسكرات موجودة على نطاق واسع وقائمة على شكل مؤسسات. والمؤكد أنه يحق لرجال الشرطة السرية أن يزجوا في المعتقل أشخاصاً لمدة خمس سنوات دون محاكمة. وقد تحدثت تقارير ومكاتبات وإحصائيات وشهادات الرجال والنساء المعتقلين عن معسكرات ضمت 15 - 20 مليون شخص في ظروف مأساوية محكوم عليهم بالأشغال الشاقة.
كان الشيوعيون يمتدحون نظام المعسكرات في الاتحاد السوفييتي، ويعتبرون ذلك إعادة تأهيل وتوظيف في أعمال مفيدة بدلاً من وضعهم في معتقلات. وقالوا إن الإجراءات ضرورة مرحلية في ظل الأزمة الاقتصادية. واعتبروا أن نقد الاتحاد السوفييتي يضع الناقدين موضوعياً في موقع معادٍ للاتحاد السوفييتي وما من طريق ثالث، إما مع الاتحاد السوفييتي وإما مع النظام الرأسمالي. إما التحالف مع الرجعية وإما التحالف مع الاتحاد السوفييتي وما يقوم به ستالين جيد. ولا يهم وجود محاكمات أم لا باستثناء محاكمات الإعدام، وأن أعداداً كبيرة من المعتقلين يموتون.
مقابل ذلك تساءل مثقفو الحركة اليسارية، ماذا يعني طمس الحقيقة، وربما كانت الضغوط الصادرة عن الأحزاب الشيوعية ستدفع الاتحاد السوفييتي إلى أن يعدل نظامه ولا يجوز إغماض العين عن رؤية الأشياء وإعلان العجز عن إمكانية تغييرها، فهذا يشبه الحكم على الاتحاد السوفييتي بالموت وإطفاء أي أمل بالتغيير على وجه الأرض. كانوا يعتقدون أنه يمكن إدانة سياسة الاعتقال الجماعي والمعسكرات دون توجيه أصابع الاتهام للنظام الاشتراكي. قالوا: سننقد المعسكرات ونطالب بإعادة النظر في القوانين الجزائية وسندافع عن الاشتراكية في الوقت ذاته. وتساءلوا: لماذا لا يقام أي وزن للاعتبارات الأخلاقية. إن إدانة سياسة البطش والقمع لا تعني إدانة النظام الاشتراكي. يجب أن تلغى المعسكرات، ويجب القول ذلك بصوت عالٍ وأن نخرج من حالة الصمت. احترام الحقيقة واحترام الفرد ليسا عقبة في طريق النضال الثوري. الإنسان هو قيمة عليا قبل كل شيء، والعيش بخنوع يفقد صاحبه جوهره الإنساني.
الإصلاحات تتحقق عندما يطالب بها الرأي العام ومهمة الكاتب والمثقف المجاهرة بالحقيقة، وتحريك وتعبئة الناس دفاعاً عن حقوق الإنسان التي لا تنفصل عن قيم الاشتراكية.
وإذا بقي المثقف صامتاً عما يجري في المعتقلات فإنه يضع نفسه في موقع المشارك أو المتواطئ مع الجرائم.
وإذا تكلم فإنه سيساهم في تصويب المسار الاشتراكي ولن يصبح متواطئاً مع أعداء الاتحاد السوفييتي. لا نريد أن نكون جزءا من ديكتاتورية الفكر التي تتجاهل الجرائم.
انتهى الصراع وسط المثقفين الفرنسيين بانتصار الاتجاه الرافض لنقد وجود معسكرات اضطهاد، الاتجاه الذي حشر الناس بين ثنائية إما مع الاتحاد السوفييتي وإما مع الإمبريالية.
انقسمت الحركة اليسارية المسماة (S.R.L) وجرى حلها بعد عجز هذا الاتجاه النقدي من المثقفين الفرنسيين عن التأثير في النخب وفي الرأي العام الفرنسي.
أحدثت رواية «المثقفون» لسيمون ديبو فوار حراكاً في صفوف النخبة الثقافية لكنها أخفقت في بناء رأي عام رافض للاضطهاد والديكتاتورية المغطى بثياب ثورية واشتراكية.
مقابل ذلك وكما يقول حازم صاغية فإن «رواية العتم عند الظهيرة» لآرثر كوستلر القيادي في الحزب الشيوعي الألماني الذي تأثر بمحاكمات التطهير الكبير في موسكو وبالاعترافات الكاذبة التي انتزعت من الرفاق، وتحديداً تأثر بإعدام القيادي البلشفي بوخارين والقيادي والمنظر الحزبي فروباشوف الذي اعتقل إبان التطهير الكبير وأجبر على الاعتراف بجرائم منها محاولة قتل ستالين وأعدم إثرها، المناضل الذي شهد تحول الفكرة التوتاليتارية إلى مجزرة.
رواية «العتم عند الظهيرة» صدرت في باريس العام 1946 وبيع منها 400 ألف نسخة، هذه الرواية أضعفت الحزب الشيوعي الفرنسي وهزت الحياة الثقافية في بريطانيا.
كان أبشع ما في الاضطهاد الذي نقلته الرواية فكرة إقناع المضطهدين بإدانة أنفسهم.
في سياق البحث عن الحقيقة تأسست منظمة «ميموريال» التي كان هدفها التفتيش في الذاكرة السوفييتية والبحث عن ضحايا العنف والقهر الستالينيين خاصة في فترة الرعب في أعوام 36 - 38 التي فاق عدد قتلاها مليون قتيل وملايين خلال فترة حكم ستالين 29- 53 قالت المنظمة إنها ستنشر القيم الديمقراطية وحكم القانون من أجل تفادي عودة التوتاليتارية.
دخلت المنظمة إلى ارشيف الـ»كي جي بي» غير أن جهاز (F.S.B)عرقل عملية الوصول إلى المعلومات وأخفى الكثير من الملفات. كان المبادر أندريه ساخروف مخترع القنبلة الهيدروجينية السوفييتية، تحول إلى ناشط لحقوق الإنسان وداعية لعدم انتشار الأسلحة النووية أضرب عن الطعام بسبب التضييق والمنع. في العام 74. سمح له غورباتشوف بالعودة العام 86 وأصبح رئيساً للمنظمة.
ما تقدم يقودنا إلى سؤال: لماذا يتبنى اليساريون في يومنا هذا الرواية الروسية في كل تفاصيلها ومصطلحاتها، مع أن نظام بوتين غير اشتراكي أبداً، وغير ديمقراطي أبداً، ويرعى المستبدين أبداً؟ هل يكفي أن معركته مع الغرب الاستعماري على النفوذ ؟