وكالات - رجب أبوسرية - النجاح الإخباري - تبادر لأذهان معظم مراقبي الشأن الداخلي الإسرائيلي بعد إعلان نتائج انتخابات الكنيست الخامس والعشرين التي جرت مطلع تشرين الثاني الماضي، بأن فوز اليمين بفارق مريح، يعني بأن إسرائيل قد خرجت بعد أربع سنوات من حالة الفوضى السياسية الداخلية التي عصفت بها، جراء حالة التوازن بين معسكرَي اليمين وتحالف الوسط واليسار، الذي استمر خلال أربع جولات انتخابية سابقة، لم يتمكن الكنيست في دوراته السابقة خلالها، من أن يكمل ولايته لأربع سنوات، بل إن 4 جولات انتخابية جرت خلال ثلاث سنوات ونصف، لكن هذا التقدير سرعان ما تبدد، أولاً من خلال اضطرار رئيس تحالف اليمين الفائز بالانتخابات إلى استنفاذ المهلة القانونية حتى يعلن لرئيس الدولة نجاحه في تشكيل الحكومة، وثانياً، حين اندلعت التظاهرات بمجرد تولي حكومة اليمين واليمين المتطرف والمتدينين مقاليد الحكم، قبل نحو أسبوعين فقط.
وحقيقة الأمر، أن حكومة بنيامين نتنياهو السادسة التي يشكلها في حياته السياسية، والتي اعتبرت داخل إسرائيل نفسها الأكثر يمينية وتطرفاً، بدأت عهدها بإعلان حروبها المتعددة في كل الاتجاهات، وهي لم تقتصر على إعلان عدائها للجانب الفلسطيني بكل مكوناته ومستوياته، كما كان حال العديد من حكومات اليمين التي سبقتها، ولا كما هو متوقع من تشكيلتها، فهي أثارت مخاوف العديد من القوى والقطاعات داخل إسرائيل وحتى حلفاء إسرائيل وفي المقدمة الولايات المتحدة وداخلها عدد لا يستهان به من المنظمات اليهودية، التي أثارت حفيظتها نوايا هذه الحكومة في الذهاب على طريق تحويل إسرائيل من دولة مدنية_ديمقراطية، تحاكي الغرب، كما أعلن عند قيامها، إلى دولة شريعة، تشبه إلى حد بعيد الإمارات التي اعتاد أن يعلنها المتطرفون في الشرق الأوسط منذ نحو عقدين من السنين.
قطاعات واسعة من المواطنين الإسرائيليين، اليهود والعرب انخرطوا في تظاهرات السبت وما تلاها من تظاهرات الطلاب، بعد أن نال التعليم نصيبا من التزمت الديني من خلال الدفع بتغيير المناهج، وحيث أن الوسط واليسار والعرب أصلا يعارضون بشكل تلقائي وطبيعي هذه الحكومة، لذلك يمكن القول، بأن حكومة نتنياهو السادسة الحالية، وجدت نفسها تصطدم أولا بالقضاء ومن ثم الجيش، وذلك لعلاقة هذين القطاعين أو المؤسستين باتفاقيات الائتلاف بين الليكود وشركائه من حزبي الصهيونية الدينية وشاس.
وكان شاس قد اشترط أصلاً أن يبدأ الائتلاف بتعيين رئيس للكنيست بدلاً من رئيسه من حزب «يوجد مستقبل»، وذلك قبل إعلان حكومة اليمين، حتى يقر الائتلاف مشروع قانون يسمح لزعيم شاس آرييه درعي المسجون لمدة ثلاثة أعوام من قبل، والمحكوم مع وقف التنفيذ، بتولي منصب وزاري، حيث يمنع القانون الإسرائيلي من صدر بحقه حكم قضائي من ذلك، وبعد أن تقدم وزير العدل الليكودي بمشروع قرار يمنح الحكومة صلاحية تعيين القضاة، بما أثار الجدل الواسع الذي ما زال يعتبره المعارضون بمثابة انقلاب داخلي، قام قضاة المحكمة العليا بإلغاء تعيين درعي وزيرا للداخلية في حكومة نتنياهو.
هذا القرار يعتبر بمثابة صاعق تفجير للوضع الداخلي، ذلك أن شاس يشترط تولي زعيمه المنصب الوزاري، وإلا لن يشارك بأعضائه الثمانية في الائتلاف، بما يهدد بالطبع الحكومة التي لم يمض على تشكيلها أكثر من أسبوعين بالتفكك، ويمكن لمثل هذا الاحتمال أن يدفع بإسرائيل مجددا إلى أتون عدم الاستقرار، ذلك أن بقاء اليمين في الحكم دون درعي، ربما لا يمكن أن يكون إلا بتقديم الليكود تنازلات إضافية لشاس، أو حتى أن يضطر الليكود إلى «إجراء عملية جراحية» سياسية، ذلك أن تحجيم القضاء وهدف سيطرة الحكومة عليه، ووضع حد لاستقلاله إنما هو هدف لنتنياهو نفسه، فهو مثل درعي مهدد في حال أدين في القضايا المرفوعة ضده بتهم الفساد، بالتقاعد من العمل السياسي، هذا إذا لم يسجن فعلاً، كما سبق وسجن أهود أولمرت رئيس الوزراء اليميني الليكودي الأسبق.
وما يزيد الطين بلة، أن الصخب لا يقتصر على داخل إسرائيل، وإن كان هو الأهم بالطبع، فما أن تولت الحكومة المتطرفة مقاليد الحكم، حتى بدأ حراك إقليمي لا يستهان به، لأنه يحيط بإسرائيل، ويشمل الدول التي عقدت اتفاقات السلام المبكر مع إسرائيل، والتي نسيتها على ما يبدو الحكومة المتطرفة، ونقصد لقاء القمة الثلاثي الذي عقد قبل أيام معدودة في القاهرة وضم كلا من الرئيسين محمود عباس وعبد الفتاح السياسي والملك عبد الله، والذي أكد بوضوح على الموقف السياسي الفلسطيني، وهذا يعني دعمه من قبل شقيقيه الأهم سياسياً وجغرافياً لكلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ويشد من عضده في مواجهة الحرب السياسية القادمة مع الحكومة الإسرائيلية.
في حين أن الحليف الأهم لإسرائيل، أي الولايات المتحدة ما زالت تظهر التحفظ على ضم حكومة نتنياهو اثنين من غلاة التطرف، واللذين ترى فيهما واشنطن مظاهر الإرهاب دون أن تعلن ذلك، لكنها أعلنت بوضوح بأنها لن تتعامل معهما، وأنها ستتعامل مع نتنياهو دون وزرائه، وهذا موقف في غاية الأهمية، وقد أكده الوفد الأميركي الذي زار إسرائيل مؤخرا، كذلك ترافق هذا الأمر مع خطوة إسرائيلية رسمية غير مسبوقة تمثلت في منع السفير الأردني من زيارة المسجد الأقصى، رغم الولاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، حيث أن دخول المسجد والسماح بزيارته إنما هو شأن الأوقاف التي تدير الحرم، وليس الشرطة الإسرائيلية كما ادعت الحكومة الإسرائيلية في تبرير منعها السفير الأردني من زيارة الحرم.
ولإظهار هذا الموقف في وجه التطرف الإسرائيلي المنفلت من عقاله، خاصة بعد تراجع نتنياهو بعد يومين فقط من تشكيل حكومته عن تأجيل اقتحام إيتمار بن غفير للأقصى وهو الذي صار وزيرا في الحكومة ويمثل الموقف الرسمي، ورد الاتحاد الأوروبي بزيارة العديد من السفراء والدبلوماسيين الأوروبيين للأماكن المقدسة لإظهار التضامن ضد حكومة إسرائيل المتطرفة، والتأكيد على عدم السماح بتغيير الوضع المعتاد والذي يؤكد منذ عام 1967 أن القدس الشرقية بأماكنها المقدسة إنما هي أرض محتلة لا يجوز تغيير واقعها بقوة الاحتلال.
يبدو بأن اليمين الإسرائيلي وكما قلنا في مقالات سابقة، قد وصل بإسرائيل إلى آخر طريق التطرف، الذي يزيد من خصوم وأعداء الحكومة، الذين باتوا كثرا داخل وخارج إسرائيل، لذا فإن حالة عدم الاستقرار داخل إسرائيل ستعود على الأغلب، وبأقل تقدير ستشهد إسرائيل حالة من الصخب السياسي الداخلي والخارجي، حيث لم تعد مواجهة التطرف اليميني مقتصرة على المعارضة السياسية التي لم تنجح سوى بإخراج نتنياهو من الحكم مدة عام ونصف فقط، ولم تنجح حتى في إخراجه من الحياة السياسية، بعد أن بات خطرا بشخصه على إسرائيل نفسها وفق تقدير العديد من الإسرائيليين المعتدلين، والذين اعتادوا على دولة المؤسسات، بعد أن بدأ يمس هو وحكومته بأهم مؤسسات الدولة، أي الجيش بقضم صلاحياته ومحاولة إخضاعه للحكومة سياسيا، بعد أن حرصت إسرائيل على إبقاء الجيش خارج الحسبة السياسية طوال عقود، وكذلك القضاء، وتكفي هنا الإشارة إلى أن عشرة قضاة من أصل أحد عشر قاضياً في المحكمة العليا قد صوتوا مع قرار إلغاء تعيين آرييه درعي وزيراً لداخلية إسرائيل.