وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - أنجزت الوساطة الأميركية اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية بين الدولة اللبنانية ودولة الاحتلال الإسرائيلي. واعتُبر الاتفاق من قبل دوائر إسرائيلية وأميركية وفرنسية ولبنانية رسمية بأنه اتفاق ذو أهمية جيوسياسية يفتح الطريق أمام تطبيع لبناني إسرائيلي مرسم أو غير مرسم، ويمنح استقراراً أمنياً، ولهذا وصف الاتفاق بأنه اتفاق تاريخي. الاتفاق من جهة أخرى جسد أولوية الحل الاقتصادي باعتباره الأساس الذي يمكن له أن يفتح الأبواب أمام الحل السياسي، حيث لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة وبالعكس.
ما كان لهذا الاتفاق أن يتم بمعزل عن مجموعة من العوامل أهمها، توازنات أسواق الطاقة الدولية التي باتت أكثر خطورة وحساسية في ظل الحرب الأوكرانية والعقوبات المتبادلة الناجمة عنها ، لا سيما وقف تدفق الغاز الروسي وارتفاع أسعار النفط بمستويات غير مسبوقة، وحاجة أوروبا وأميركا للغاز حيثما وجد، وهذا يفسر الحماس الأميركي الأوروبي منقطع النظير للاتفاق والجهود المبذولة لتبديد العقبات من أمامه. وفي الجهة الأخرى فإن الحكم اللبناني الذي يعيش حالة من الانهيار الاقتصادي والذي صنفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ زمن طويل، بأمس الحاجة الى هذا الاتفاق كخشبة خلاص له. يضاف الى ذلك عوامل اخرى من نوع مفاوضات السلاح النووي الإيراني واحتمال التوصل الى حل، ومحاولة حكومة لابيد - غانتس تقديم إنجاز للناخب الإسرائيلي بغية التمديد لها، وحاجة بايدن لإنجاز في الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي، فضلاً عن تأكيد الاستحواذ الأميركي على أهم وأكثر الملفات حساسية في الشرق الأوسط بعد إخفاقات متعددة وبخاصة في ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
الاتفاق عزز العامل الاقتصادي في حل الصراعات، فقد استبقت إدارة ترامب الاعلان عن صفقة القرن بمؤتمر المنامة الاقتصادي الذي روج لحلول اقتصادية من الوزن الثقيل، وتبين بعد الاعلان عن الصفقة السياسية كم كان الثمن الاقتصادي هزيلاً مقابل تثبيت احتلال واستيطان دائمين في الاراضي الفلسطينية وتصفية قضية اللاجئين، ومعهما شطب حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. الشيء نفسه ينطبق على المساعي الإسرائيلية المحمومة لشراء الهدوء في قطاع غزة والضفة الغربية بزيادة عدد العمال الفلسطينيين داخل إسرائيل، وبتسهيلات مفتوحة لرجال الأعمال ووكلاء السلع الإسرائيلية في الاراضي الفلسطينية، وتسهيلات محدودة لإعادة الإعمار في قطاع غزة. فكرة شراء الهدوء بالمال استراتيجية إسرائيلية معتمدة منذ أمد، وقد أخذت تشق طريقها في أكثر من مكان. يقول الكاتب الإسرائيلي ميراف ارلوزولوف في هآرتس، الحروب تكلف إسرائيل 7%-30%من ناتجها المحلي الإجمالي، وتقلص الرغبة في الاستثمار بنحو 26% من الناتج المحلي الذي يقدر بـ 100 مليار خسارة مداخيل سنوياً. لجوء دولة الاحتلال لشراء الهدوء والاستقرار بالمال أو بإتاحته يراه البعض على انه مؤشر لتراجع الكولونيالية الإسرائيلية أو ضعفها ووصول احلامها بالتوسع الى جدار مسدود، أصحاب هذا الرأي يغفلون حقيقة الانتقال الى أشكال هيمنة ما بعد كولونيالية على صعيد كوني، بما في ذلك علاقات اسرائيل في الإقليم، فقط يستمر الاحتلال الاسرائيلي بشكله الاستعماري التقليدي القديم في الاراضي الفلسطينية، لأسباب لها علاقة بإنكار حق الشعب الفلسطيني في التحرر وتقرير المصير، ومحاولة إقصائه سياسياً.
بعد الإعلان عن الموافقتين الإسرائيلية واللبنانية تكثر الأسئلة حول معنى اتفاق الغاز وترسيم الحدود لبنانيا وإسرايلياً وحول المنتصر والمهزوم. يلاحظ ان تقديرات المؤسسة الأمنية والحكومة الإسرائيلية، ترى ان الاتفاق يشكل حلاً دائماً للنزاع البحري ويمنح استقراراً أمنياً لإسرائيل. الاعتراف اللبناني بحدود بحرية، وضمناً بالحدود البرية عبر ما يسمى الخط الأزرق الذي جرى ترسيمه على طول الحدود البرية بمشاركة الأمم المتحدة بعد انسحاب إسرائيل في العام 2000، وذلك من خلال الاستجابة اللبنانية للمطلب الإسرائيلي بالامتناع عن القيام بتغيير ترسيم الحدود البرية، هذا الاعتراف لا ينفصل عن الاعتراف اللبناني غير المباشر بصاحب الحدود. وقبول لبناني بملكية إسرائيل لحقل كاريش بالكامل، وبحصة لإسرائيل او تعويضات في أعقاب استخراج الغاز في حقل قانا، وما يعنيه ذلك من مضاعفة الأرباح الإسرائيلية. والاتفاق كما يقول وزير الجيش بيني غانتس يخدم المصالح العميقة لإسرائيل ويؤمن حرية العمل في الساحل بدون أن تتنازل إسرائيل عن ميليمتر واحد من الأمن. التنازل الإسرائيلي ينحصر في حقل قانا -من المياه الاقتصادية – وليس من المياه السيادية. وتحديدا تراجعت إسرائيل عن الاستحواذ بنسبة 57% الى استحواذ بنسبة 17% . وبحسب هآرتس، «تنازلت إسرائيل عن شيء ما أرادت أن يكون لها، ولكنه لم يكن ملكاً لها قط». وتنازلت لبنان عن حقل كاريش وعن الحق في ملكية كاملة لحقل قانا، إضافة للربح الإسرائيلي الصافي من حقل كاريش، فإن الاتفاق يمنح إسرائيل نافذة للتدخل في استخراج الغاز اللبناني من حقل قانا، كما يقول الخبير اللبناني سهيل شاتيلا .
وثمة تقديرات لبنانية أخرى تقول بأن الاتفاق اسقط حقوق لبنان التشغيلية في البلوك رقم 9 بمعنى حرمان الدولة من حقوقها في الدخول كشريك عبر شركة وطنية للاستثمار في الغاز، وما يعنيه ذلك من التنازل عن حق سيادي. كما ان الاتفاق يقيد شركة توتال الفرنسية بإنجاز تفاهمها المالي مع إسرائيل قبل القيام بأي عمل، ولا يتعدى الموقف الإسرائيلي حدود تقديم حسن نوايا، في الوقت الذي تحتفظ فيه إسرائيل بحق التدخل في مراحل الاستخراج إن أرادت.
السؤال الأهم ما هو سر موافقة حزب الله للاتفاق بالرغم من تبنيه لاستراتيجية تنفي شرعية وجود إسرائيل ككيان استعماري، وبالرغم من تبنيه لمواقف تدعو الى تحرير فلسطين بالكامل. لا شك تعتبر موافقة الحزب على حدود هذه الدولة وعلى حقها في استخراج الغاز وتحقيق أرباح ضخمة من خلال الاتفاق المذكور، وفي توفير الأمن والاستقرار الذي تحتاجه، أمراً مناقضاً لاستراتيجيته المعلنة في المقاومة.
بهذا الاتفاق ينضم الحزب ومن خلفه ايران الى منظومة الدول التي أبرمت اتفاقات مع دولة الاحتلال، ولكن يأتي اتفاق الحزب بصيغة انتصار للمقاومة ورضوخ إسرائيلي للمطالب اللبنانية. واقع الحال الحزب ينحاز مرة أخرى للنظام الطائفي والبنوك والمافيات -التي سرقت 100 مليار دولار من ودائع المواطنين- في مواجهة الانتفاضة الشعبية. وحيث لم تتنازل إسرائيل عن شيء يُعتد به وهي التي لا يضيرها الحفاظ على نظام طائفي فاسد ولا يضيرها أن يكون الحزب جزءاً منه وحامياً له من شعبه. لم يتنازل الحزب لشعبه اللبناني المنتفض، لكنه يتنازل لإسرائيل من اجل إنقاذ نظام طائفي زبائني مغرق في الفساد، يتنازل لنظام قدم الاتفاق كبديل للإصلاح والمحاسبة والتحقيق في أعمال النهب وفي المآل المأساوي الذي وصل إليه الشعب اللبناني.