وكالات - مهند عبد الحميد - النجاح الإخباري - جنازة الشهيد إبراهيم النابلسي ورفيقيه الشهيد إسلام صبوح والشهيد إبراهيم طه، وكلمات أم إبراهيم وأبو إبراهيم، والتفاعل الفلسطيني مع جريمة قتلهم، هذا الحدث لخص الحالة الفلسطينية برمتها. وأعاد طرح بحث الفلسطيني عن حريته وكرامته. مجموعات وأفراد وفئات شعبية متعاظمة تبادر الى الحضور في صيغة احتجاج ودفاع وإثبات الذات بالسلاح . في هذا السياق خرجت ظاهرة المسلحين الشباب في جنين ونابلس ومخيماتها وفي بعض قرى وبلدات الشمال. الظاهرة تلقائية وغير منظمة برغم دخول بعض القوى والاتجاهات ومراكز القوى على الخط في محاولة لاستثمارها، وبرغم غض نظر المؤسسة الأمنية للاحتلال طالما كان استخدام السلاح لا يمس الاحتلال والمستوطنين.
نشأت هذه الظاهرة من الفراغ الذي تركته السلطة الناجم عن عجزها المتفاقم في تأمين الحد الأدنى من الحماية والكرامة والعمل لمواطنيها، ففي أي عقد اجتماعي بين سلطة ومواطنين يتوجب على السلطة تأمين الحماية والأمان وتلبية احتياجاتهم المعيشية، في مقابل التزام المواطنين بحكمها والانضباط لأنظمتها وقراراتها. وإذا عجزت السلطة عن القيام بذلك فإن هذه المعادلة تصبح غير سارية المفعول. في التطبيق العملي، نشاهد استباحة إسرائيلية يومية لمدن ومخيمات وقرى الضفة، واستباحة سماء وبحر قطاع غزة وتحويله برمته إلى أكبر معسكر اعتقال في التاريخ. وبالأرقام استشهد 130 مواطناً منذ بداية العام 2022 وحتى اليوم بحسب وزارة الصحة، واعتقل مئات الشبان، ودمرت عشرات المباني، فضلاً عن اقتحامات المسجد الأقصى التي تحولت الى طقوس شبه يومية تمارسها أصولية يهودية كارهة ومعادية للشعب الفلسطيني، ويضاف الى ما سبق مسلسل اعتداءات وسرقات المستوطنين اليومية. ما يزيد الأمر تعقيداً ان حكومة المستعمرين ترفض كل مقاومة فلسطينية للاستباحة وتدرجها في قائمة الإرهاب، وتعمل على قمعها بكل الأشكال، ويتحول هذا الفعل الى عمل مشروع تحت يافطة «من حق إسرائيل الدفاع عن امنها»، بمفهوم إدارة بايدن وعدد من الدول الأوروبية.
عندما لا تستطيع السلطة وأيضا التنظيمات الدفاع عن الناس والعمل على حمايتهم، ولا تمارس حقها الافتراضي في النقض وفي تحويل الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية الى معركة سياسية وإعلامية ودبلوماسية والى وقف العمل بالاتفاقات وبخاصة التنسيق الأمني، عندما لا يصار الى تأزيم الوضع وقلب كل حجر من أجل وقف الاستباحة والتراجيديا اليومية، فإن السلطة تنعزل عن الشعب وهو ما تريده وترغب فيه سلطات الاحتلال.
الأهم، عندما تتحول الاستباحة الى روتين يومي وأسلوب حياة وعادة مسلم بها، في هذه الحالة سيفكر كثير من الشباب بامتلاك السلاح للدفاع عن حالهم وأقاربهم أو للدفاع عن بيت عائلة يتعرض للهدم، أو بالتصدي لمداهمة إسرائيلية هدفها الاعتقال. على سبيل المثال عندما يقتحم المستوطنون قبر يوسف داخل مدينة نابلس، يتصدى لهم الشباب بالحجارة ومؤخراً بالبنادق. الشباب في هذه الحالة لا يفكرون بميزان القوى ولا بالخسارة والربح ولا بالرد الاسرائيلي العنيف، وانما يعبرون عن رفضهم للاستباحة. ومن داخل هذه الظاهرة المسلحة التي لا تقتصر على الجانب الوطني، بل يدخل فيها دعم مراكز القوى السياسية والمجتمعية، يبادر شبان بعمليات ضد أهداف إسرائيلية .
«لا تتركوا البارودة» وصية ابراهيم النابلسي التي أرسلها على الهواء قبل استشهاده بقليل، ثلاث كلمات عبرت عن جيل أُغلق أمامه الأفق بالكامل. لا حل سياسياً يفتح الأبواب أمام مستقبل، او كما قال الشاعر محمود درويش «لا باب يفتحه أمامي البحر» ولا استراتيجية مقاومة تستوعب الطاقة الشبابية وتشكل بديلاً لعملية سياسية فاشلة ومجمدة في البرّاد، ولا حركات احتجاج منظمة تملك مقومات ذاتية قادرة على الاستمرار وانتزاع المكاسب والحقوق، ولا مشاريع انتاج تستوعب الطاقة الشبابية.
رغم الفشل والتفكك الذاتي، تتعايش السلطة والمقاومة وظاهرة الشبان المسلحين والمنظمات غير الحكومية والتدخلات الخارجية والداخلية. التعايش نابع من الفشل، فشل الأنا والبديل. لا يوجد جزم بصحة أي خيار إذا ما جرت مواءمته مع الواقع ومصالح أكثرية الناس، وفي الوقت ذاته لا يستطيع اي طرف فاشل أن يمنع طرفاً آخر من مزاولة قناعاته. الفشل والعجز يوحدنا ولكن بدون ترسيم. يستطيع أي تنظيم، فَتح المواجهة وإبرام الهدنة مع دولة الاحتلال، وتستطيع السلطة الاستمرار في اتفاق اوسلو واستقبال الوعود أو التذكير بها. تستطيع المقاطعة - البي .دي. أس -خوض معاركها ضد التطبيع، يستطيع أي شاب القيام بعملية ثأرية وقتما شاء. ويستطيع الشبان المسلحون الرد على اي اقتحام إسرائيلي.
ثمة خلط بين الأهداف المشتركة والخاصة، بين الأهداف القريبة والبعيدة، الممكنة والمستحيلة، بين التنظيم ومراكز القوى داخله، بين اللاعبين والمتفرجين، وكل ذلك ناجم عن فوضى المعايير وغياب المرجعيات الناظمة للنضال.
في ظل هذه الحالة هل يمكن البحث عن شيء مشترك من موقع التعدد السياسي. ما هو المشترك العقلاني بين أصحاب مشروع دولة في حدود 67، ودولة علمانية على كامل التراب الفلسطيني، ودولة ثنائية القومية، ودولة إسلامية؟ قد يكون المشترك هو عمل كل أصحاب تلك المشاريع عملاً موحداً ضد بقاء واستدامة دولة الاحتلال التي لا تعترف بأي مشروع من تلك المشاريع وعملت وما تزال تعمل على تقويض مقومات كل الحلول على الارض، ودفع الحالة الفلسطينية نحو المزيد من التفكك والانقسام والفوضى والصراع الداخلي.
دولة الاحتلال شطبت كل الحلول وتقول ان صراعها مع الشعب الفلسطيني غير قابل للحل ولا يوجد حقوق وطنية للشعب الفلسطيني في وطنه. وضع الاحتلال على بساط البحث كقضية عاجلة، لا يعني إلا السكوت والتواطؤ مع الفشل والعجز الداخلي الفلسطيني، لا يعني تبرير الأخطاء وعزوها للاحتلال فقط كما نرى ذلك في الخطاب السياسي والإعلامي السائد. بالعكس ان العمل المشترك ضد الاحتلال كأولوية، لا يكون جاداً وفعالاً إلا بمواجهة حازمة مع الذات ومع الأخطاء والتسلط والفساد والتكلس والبيروقراطية. لا شك ان المجتمع يعيش إرهاصات الخروج من عنق الزجاجة. كانت معركة نقابة المحامين ونجاحها في إبطال المراسيم بقرار إضاءة شديدة الأهمية وهي تنتصر للعدالة، وما جرى في غزة ونابلس وجنين عبّر عن إرادة تحرر غير قابلة للانكسار.