وكالات - أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - استعراض ونشوة في إسرائيل بعد هجومها على غزة وتمكنها أخيراً من الوصول إلى قائد كتائب شهداء الأقصى في نابلس إبراهيم النابلسي، وعلى الجانب الآخر حالة من الإحباط تسود في المجتمع الفلسطيني، غزة تبكي بصمت حتى لا يسمع الأعداء صوت دموعها.... فهل كنا بحاجة إلى أحداث كهذه كي نقف أمام الراهن ونعود للعقل قليلاً فاتحين ما يكفي من الأسئلة المؤلمة التي أوجدتها مسيرة الهدم الذاتي للفصائل والقوى الفلسطينية وأفضت إلى هذا القدر من تشاؤم المستقبل؟
الدول والشعوب المنظمة التي تعرف ماذا تريد وتقرأ كل شيء بعقلها ليست بحاجة إلى مناخات ومقارنات وواقع يثقب عينها بوقائعه، لكن الشعوب البسيطة والعاطفية التي تعيش خيال الشعار بحاجة دوماً إلى رجّات عنيفة كي تستعيد توازنها الذهني لتقف أمام نفسها في لحظة الاختناق لتفكر في واقعها ومستقبلها الذي عادة ما تتركه للمصادفات والقدر.
بعد الأحداث المؤلمة تراجعت بل لم يعد هناك متسع للشعارات، إذ لم تعد تكفي رحابة اللغة العربية للتعمية على واقع ينزلق أكثر نحو المجهول، وينجر دون أن يدري أو يدري إلى مساحات لم تكن تستحق كل الثمن المدفوع سابقاً بمغامرات غير محسوبة أو مساحات أصبحت من الوضوح أنها في تناقض مع المشروع الوطني برمته، لقد قيل هنا سابقاً مرات عديدة ولكن ربما كنا بحاجة إلى لحظة ما كي ندرك هشاشتنا العملية التي لم نكن ندركها نظرياً.
«أوسلو» لم يصل إلى شيء بل تحول مع الزمن إلى كمين اكتشف الفلسطيني أن لا مخرج منه، كانت حركة فتح قد وقعت في هذا الكمين منذ أن قبلت بإنشاء سلطة وأن تمارس الحكم تحت الاحتلال، أو ليتحكم الاحتلال بمفاصل الحياة والاقتصاد، وعندما كنا نلاحظ أن «أوسلو» أخذ بالغرق كانت بعدها باثنتي عشرة عاماً تلتحق حركة حماس بهذا المركب ليزداد عدد الغرقى أكثر وليشرف بعدها المشروع الوطني برمته على الانهيار، وقد كان.
لا يمكن تحميل حركة الجهاد الإسلامي كتنظيم وطني فلسطيني ابتعد مبكراً عن مغانم الحكم مسؤولية الحرب الأخيرة على غزة، فهي لم تبدأ حرباً وقد اعترف قادة إسرائيل من عسكريين ومدنيين بأنهم كانوا يخططون لها منذ أشهر ولكنهم تمكنوا من استدراج حركة الجهاد إلى حيث الحرب، وهنا القصة التي تستدعي التوقف أمام العقل السياسي الفلسطيني لفتح تاريخ أطول من كمائن الاستدراج التي تمكنت إسرائيل من تهيئتها للفلسطينيين، وذلك أخطر ما يمكن اكتشافه عندما ندرك أن كل المسارات الإسرائيلية التي نجحت كانت تنجح بتخطيط إسرائيلي وتنفيذ فلسطيني، فقد يقوم الإسرائيلي بتهيئة الظروف فقط فيندفع الفلسطيني لها، والأسوأ أن الخطاب الفلسطيني الذي رافق كل مراحل التراجع يكون خطاباً وطنياً أو دينياً للتغطية على المأساة في ظل سخرية الإسرائيلي واحتفاله بالنجاح.
ذات مرة، كان يحضّر لأكبر مشروع ضد الفلسطينيين مهيئاً ما يلزم من ظروف ومستخدماً ما يملك من امكانيات لقتال فلسطيني فلسطيني في غزة بعد انسحابه منها (الذين عايشوا تلك المرحلة بإمكانهم استعادة تفاصيل الفعل الإسرائيلي وبضمنها اعتراف مستشار شارون لشؤون الاستخبارات غورين) المهم أن العاطفة الفلسطينية وتنحّي العقل جانباً والاندفاع فتح تلك الحرب المجنونة بينهم، ونذكر آنذاك كيف تمت تغطيتها بشعارات وطنية وطهرانية ودينية، وهو مشروع إسرائيلي بالأساس. يمكن القول الآن بعد خمسة عشر عاماً أنه تسبب بانحناءة مزمنة للقضية الفلسطينية ولن يخرج منها.
الحكم تحت الاحتلال وبغض النظر عن تسمية المؤسسة أو النظام القائم يعني الخضوع لمعادلة الاقتصاد والغذاء والحاجات اليومية التي يتحكم بها الاحتلال مقابل مكافأة الحكم، وهو يدرك علاقة العربي بالسلطة التي وصلت حد تصفية الإخوة وانقلاب الابن على أبيه، وسالت لأجلها أنهار الدم في عواصم العرب، هذا تبدى مبكراً لدى ياسر عرفات حين قرر قلب الطاولة، لكنه دفع الثمن لتستمر السلطة وحركة فتح بعده بالمعادلة نفسها التي كان أبرز تعبير لها صدر عن رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور محمد اشتية «بدكو وطن والا مصاري» إدراكاً أن ثنائية وطن وحياة طبيعية هي امكانية مستحيلة عندما يتأبط الفلسطيني حكم نفسه مبكراً، وهنا كانت حركة حماس تلتحق متأخرة بالمشروع تخضع الآن للمعادلة نفسها التي كانت الخطاب السائد رداً على سؤال عدم التحاقها بالحرب الأخيرة على غزة وإن تصرفت بمسؤولية.
أصبحت «حماس» جزءاً من تجلي تلك المعادلة بوضوح أكثر خلال هذا العام، وهي التنظيم الإسلامي الذي يبرر وجوده بالمقاومة التي كانت جزءاً من التسمية، معرباً أكثر من مرة عن عدم سكوته إن تم الاعتداء على القدس أو الاعتداء على الشعب في غزة التي تحكمها، ولسوء حظها فقد شهد هذا الصيف اعتداءين على هاتين المنطقتين كانت خلالها «حماس» تحسب وأسيرة للمعادلة، اذ دخلت حاجات الناس وحياتها ومعيشتها ضمن تلك الحسابات والتي خضعت لها «فتح» مبكراً.
ماذا يعني ذلك ارتباطاً بمعادلة رئيس الوزراء حول تناقض ثنائية الوطن والمال؟ والسؤال الأبرز في سياق استدراج الإسرائيلي ومحاولاته على ما أسماه مبكراً كيّ الوعي الفلسطيني. هل اكتملت معادلة المقايضة لصالح الإسرائيلي ومشروعه والسلام الاقتصادي بديلاً عن الحل أو نظرية إدارة الصراع لا حله وتخفيض مستواه بالاقتصاد والحاجات الإنسانية؟ هل أصبحت كلمة «بدنا نعيش» شعاراً وواقعاً وصل كل الفلسطينيين أو على الأقل الذين يمارسون السلطة؟ في الضفة الغربية وفي قطاع غزة وامتد إلى مناطق الداخل ممثلاً بمنصور عباس رئيس القائمة الموحدة، الذي لم يكن يفكر لولا تلك المناخات التي تحيط بالحركة الوطنية الفلسطينية والتي باتت جزءاً من تلك المعادلة، أو تم استدراجها للحكم وشهوة البقاء وصراعاتها الداخلية المنهكة.
هذا الواقع الصادم جسّدته المعادلة الأخيرة في ضربتَي غزة ونابلس والذي فتح على كل التساؤلات التي ملأت الفضاء الإلكتروني وبالفعل الإسرائيلي والعجز الفلسطيني المقابل، أو عدم الرغبة بالفعل خضوعاً لمعادلة الابتزاز والمقايضة، هذا يعني اشتداد المأزق الفلسطيني حداً لا مثيل له في تاريخهم، هذا ليس حديث كُتّاب بقدر ما أن الوعي الجمعي الفلسطيني بات يستشعر خطورة الأمر، ويرى أن خللاً كبيراً أصاب الراهن الذي سينسحب على مستقبل بات مجهولاً، ويعبر ذلك الوعي الجمعي عن نفسه على وسائل التواصل الاجتماعي بأسئلة حائرة، باحثاً عن إجابات لم تعد تصلح لها العواطف ولا الشعارات، فلم تعد تكفي اللغة لستر عورة الواقع..!!!