وكالات - عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - رواية "الخزنة، الحب والحرية" للروائي عصمت منصور، من إصدار "طباق للنشر والتوزيع، 2022".. تقع في 172 صفحة من القطع المتوسط، وهي الرواية الرابعة له بعد "سجن السجن"، و"فضاء مغلق"، و"السلك".
تتحدث "الخزنة" عن جوانب معينة من حياة الأسرى في سجون الاحتلال. وهي رواية مشوقة، صيغت بأسلوب السهل الممتنع، تضع القارئ تحت سطوتها، وتهز وجدانه في أكثر من موقف.
صدرت الرواية بعد أقل من سنة من عملية هروب أسرى سجن جلبوع، في 6 أيلول 2021، القصة المذهلة التي وحّدت الشعب الفلسطيني على قلب رجل واحد، وجعلته يتابعها ساعة بساعة بأعصاب مشدودة وأكفٍّ تتضرع بالدعاء، إلا أنها انتهت وللأسف بالقبض على أبطالها الستة، هذه العملية التي عُرفت إعلاميًّا بـ"نفق الحرية"، أعادت قضية الأسرى إلى الواجهة، وهزت العالم، وأربكت إسرائيل.. لكن رواية عصمت لم تكن عنها تحديداً، كما توقعت في البداية، وإن كانت تقترب منها إلى حد كبير، وتقتبس صورهم الحية، فتجعلك تشعر بأبطالها وهم يتجولون بين صفحات الرواية، وتسمع خفق قلوبهم.
الرواية نوع جديد وإبداعي في تناول قضية الأسرى، من زاوية إنسانية أولاً؛ تحدثت عن محاولات الهروب المتكررة من سجون الاحتلال، وتوق الأسرى إلى الحرية، وعن معاناتهم اليومية، وعذاباتهم أثناء عمليات الإضراب، وتحديهم للسجان، وصراعات الأسير المحرر بعد خروجه من المعتقل، وحواراته الداخلية، ومحاولاته اكتشاف نفسه، وفهم معنى الحياة وقيمتها، والتكيف معها.
المميز في الرواية أنها لم تسعَ إلى تمجيد الأسرى، أو أسطرتهم، وتصويرهم أبطالاً خارقين للعادة.. بل تعاملت معهم بوصفهم بشراً عاديين، فأظهرت جوانب ضعفهم الإنساني، لكنها وبكل عفوية، ودون تفخيم ولا مبالغات أظهرت جوانب عديدة من شجاعتهم، وقوة صمودهم، وإصرارهم على التمسك بالحياة، رغم خفوت الأمل، وقسوة وجبروت جدران السجن، والتي لا تعني الجدران الأسمنتية وحسب، بل وتشمل جدران الاحتلال التي أحاطت فلسطين كلها. وفي مواضع أخرى أشار إلى الجدران المصطنعة التي يضعها الإنسان على عقله وقلبه وخياراته، سواء كان أسيراً، أم كان خارج السجن.
استفاد عصمت كثيراً من تجربته الطويلة في الأسر، فقد أمضى عشرين سنة كاملة في سجون الاحتلال، وتلك السنين الطويلة حفرت في ذاكرته عميقاً، وصقلت شخصيته، وهذّبت إنسانيته إلى الحد الذي جعلت منه أديباً شفافاً، يفيض بالإنسانية.
الإبداع في الرواية تناولها موضوع "الحب"، وتصويرها بإتقان فني كيف يغدو الحب أكبر محفز للحياة، وباعثاً على الأمل، والسلاح الأقوى في مواجهة السجن والسجان.. ليس بنهاياته السعيدة، بل لمجرد حدوثه.
إضافة إلى أن الرواية تصلح كشهادة حية وتوثيق دقيق لواقع حياة الأسرى، ومرافعة أدبية تفضح فاشية المحتل، فهي من الناحية الأدبية رواية مكتملة، مصاغة بأسلوب أدبي فذ، لغتها سهلة، وتخلو من التعقيد المتعب، وقد خلت من الإنشاء والحشو، وإصدار الأحكام، حتى في مشاهد التعذيب لم يصدر حكمه ضد السجان، وترك ذلك لمخيلة القارئ وضميره، وكذلك في المشاهد التي تبدو فيها شجاعة الأسرى، لم يمدحهم بشكل مباشر بالعبارات البلاغية المعهودة، بل ترك الحكم للقارئ وضميره. وأيضاً في الحوارات سواء بين أبطال الرواية أنفسهم، أم مع السجان والمحقق، جاءت الحوارات سهلة ومباشرة، ليس فيها تنظير ولا ادعاءات، لكنها انتصرت بكل عفوية لقيم الحق والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
كما تضمنت الرواية جوانب فلسفية تغوص عميقاً في النفس الإنسانية، سواء في لحظات التعب والغضب، أو في لحظات السكون والتأمل، لتكشف عن جوانب مذهلة تكمن في أعماق الذات، وربما لا نعرفها حتى نختبرها، أو يدلُّنا عليها آخرون.
في عملية هروب أسرى سجن جلبوع، كما حدثت بالفعل، تمكن الأسرى الستة من معانقة الحرية، بعضهم لأيام قليلة، وبعضهم لقرابة الأسبوعين، إلى حين تمكنت سلطات الاحتلال من إعادة اعتقالهم.. وقد تحدث الأسرى عن مشاعرهم وأحاسيسهم خلال تلك الأيام القليلة والثمينة جداً، لندرك حينها (نحن الذين نعيش خارج السجن) مدى قيمة الحياة، وكم هي غالية ورائعة، حتى أبسط التفاصيل التي نراها عادية، أو ربما مملة، كانت ساعات الحرية القليلة بالنسبة لهؤلاء الأبطال شيئاً فارقاً، وبالغ الأهمية، كانوا مستعدين لدفع حيواتهم ثمناً مقابل تلك التفاصيل: رؤية الشمس مباشرة، معانقة الريح، تناول حبة صبر، أو حبة تين من شجرات البلاد، الضحك في وجه طفل.
لكن عصمت منصور حرمنا في روايته من عيش تلك الساعات القيمة والمدهشة، لكنه فعل ما هو أكثر من ذلك.. بكل بساطة وعبقرية استبدل تلك الأيام والساعات، بكل ما تتضمنه من مشاهد وتفصيلات مثيرة استبدلها بلحظة قصيرة، لكنها فائقة بكل معنى الكلمة. بالنسبة للأسير الذي أطل من فوهة النفق، كانت سعادته بالغة إلى حد أنه نسي نفسه، تلك اللحظة بالنسبة إليه تساوي تعب وخوف ومعاناة أشهر عديدة أمضاها في عمليات التخطيط والمراقبة والحفر والتخلص من التربة.. مجرد انبطاحه على العشب الطري، ومشاهدته السماء بنجومها وقمرها، وشمه نسمات الليل المنعشة، أعطته إحساساً بالحرية، جعلته يدرك بكل حواسه قيمة الحرية، وأن يتشربها في لحظة تساوي عمراً بأكمله.
في فيلم "الخلاص من شاوشانك"، كانت أجمل وأثمن لحظة في حياة البطل، حين خرج من فتحة النفق، ومد ذراعيه ليعانق نسمات الحرية، لم يهمه أن جسده كان مبللاً بمياه المجاري.. كانت فرحته فائقة لأنه كسر حاجز الخوف، وانتصر على نفسه، وعلى السجن والظلم.
حتى في موضوع الحب، لم تتضمن رواية "الخزنة" التفاصيل والثيمات المعهودة في روايات الحب، ولم تنته نهايات تقليدية، بل إن نهاياتها جاءت غامضة ومفتوحة.. لكن السطر الأخير في الرواية جاء مكثفاً وقد اختزل الموضوع في عبارة واحدة: "الحب الذي حرك سامر وسفيان من أجل حفر النفق.. هذا الحب دوماً ينتصر، لا لأنه ينتهي دوماً نهايات سعيدة، بل لمجرد حدوثه".
كان بوسع الراوي سرد المزيد من الأحداث واستحضار شخصيات أكثر، والتوسع في الحوارات والتوصيف، لكنه آثر الاقتصاد في اللغة والسرد، وهذه تُحسب له؛ فأتت رواية متقنة، بمجرد أن تبدأ بها لن ترغب بتركها حتى آخر كلمة.. تستحق مكانة رفيعة في الأدب الفلسطيني والإنساني.